اعتقد الأبيقوريّون (370 قبل الميلاد) أنّ اللّذّة هي الغاية الأسمى، وأنّ على الإنسان أنْ يتخذها هدفاً لحياته، بينما اعتبر أفلاطون أنَّ الجسد وملذاته وحاجاته وهمٌ، وأنَّ الحقيقة تكمن في الفكر، هذان الاتجاهان شكّلا خطين متوازيين لا يلتقيان عبر تاريخ الفكر البشري، ونشأت عنهما بقية التيارات إلى عصرنا هذا.
وكان ذلك إلى أن جاء الإسلام بموقف وسيط ومعه بعض التيارات الفكرية في أوروبا حتى نكون منصفين، وقد حلَّ من خلاله صراعاً طويلَ الأمد في تاريخ الفكر البشري وجعل هذان الخطان المتوازيان يلتقيان، فمنذ بدايات التفكير الفلسفي حيث الخلاف بين الحياة المادية ومتطلباتها وبين الحياة الروحية وحاجة الإنسان لها، فكانت التيارات الفكرية تتحيّز لطرف دون الآخر، وكذلك الفكر الديني أيضاً فالمسيحية مثلاً كانت روحانية وجدانية تميل في تعاليمها للحياة الروحية وتنبذ الحياة المادية وتحقّر الجسد حسب الفكر الكنسي بينما كانت اليهودية مادية حياتية..
لقد عانت أوروبا والعالم أجمع من سيطرة أحد القطبين على مفاصل الحياة، فدخلت في المجاعات والفقر والأوبئة عندما فرض أصحاب الفكر الروحاني مبادئهم على قوانين الدولة والمجتمع، واليوم نشهد حالة التذمّر في المجتمعات الغربية من سيطرة المادية الجشعة على الحياة الاجتماعية.
وما يميز الإسلام كدين أنه جاء بفكر يجمع بين المادية والروحية متماشياً مع حقيقة الحياة التي هي عبارة عن "طبيعة وفكر"، "جسد وروح"، "ثنائية المحسوس واللامحسوس"..
هذا هو منهج الإسلام في التعامل مع الإنسان الذي هو مزيج من هاتين الحالتين، وهذا المنهج يجب أن يكون استراتيجية للعمل بكافة النواحي الحياتية كالسياسة والاقتصاد والعلم والتربية.
وبعد حوالي عشر سنين على ثورات الربيع العربي والبلدان التي استطاعت تغيير نظام الحكم فيها فقد وصلت الحركات الإسلامية إلى الحكم بطرق ديمقراطية، وذلك بسبب أن هذه الشعوب متعطشة لحاكم ينتشلها من حالة التخلف والقمع ويخاف الله في رعيته، ولأن هذه الحركات في الغالب كانت تُعْتَبر معارضةً لأنظمة الحكم السابقة، وكانت إمّا منفيّة خارج البلاد أو ملاحقة بشكل أمني، فكان من الطبيعي أن تفوز بالانتخابات لأنها تمثل الوجه المعاكس لنظام الحكم القائم.
ولكن لم تستطع تلك الحركات الاستمرار في الحكم وتمت ازاحتها عن سدته، ولا يعنينا هنا أكان انقلاباً أم ثورة مضادة أم أيّ تسمية أُخرى، ما يعنينا هنا أن هذه الحركات فشلت في الاستمرار بالحكم مهما اختلفت التسميات، ولم نجد التعاطف الشعبي معها كما كانت عندما تم انتخابها في البداية، على عكس ما شهدناه في بلدان إسلامية غير عربية (افشال الانقلاب في تركيا والصمود الاسطوري في البوسنة الذي قاده حزب العمل الديمقراطي) حيث كانت للشعوب كلمتها والتفَّت حول حكوماتها، فلماذا لم يحدث ذلك في بلداننا العربية!؟..
عودة على بدْءٍ وعمّا تحدثنا به من منهجية الإسلام الشاملة لثنائية الروح والمادة، وما ينطبق على العمل السياسي من تلك المنهجية حيث مراعاة الجانب الاقتصادي والمعيشي والترفيهي لحياة المواطنين، وكذلك مراعاة القوانين والأعراف الاجتماعية والمعتقدات الدينية التي تمثل الجانب الروحاني لمنهجية الإسلام في التعامل، وهذا ما لم تراعِهِ الحركات الإسلامية في عملها السياسي، فلم تواكب خطاباتها مستوى العصر والتقدم العلمي الذي شهده العالم في القرون السابقة ولذلك فقد ظلت خطاباتهم تغلفها الحماسة والتضحية وعدم الاكتراث بالحياة المادية، وجعل هذه الحياة عبارة عن ممرٍّ للفوز بالآخرة فقط لا غير، فهم يحاربون السرقة من خلال خُطَبِ المساجد دون الاهتمام بالتوزيع العادل للثروة، ويقيسون نسب الفساد بنسب الشعور بالانتماء للحركة ويقدمون خطاباً للفقراء أن لهم الجنة مع أنّ القرآن الكريم عندما أراد أن يقدم صورة الحياة الآخرة كان يستخدم الترغيب المادي والجسدي إلى جانب الترغيب المعنوي، فمن أين جاءت تلك الحركات بفكر الابتعاد عن متطلبات الحياة الدنيا!؟..
وأعتقد أنه من الأسباب الهامة لهذا السقوط للحركات الإسلامية في البلاد العربية بخاصة هو فكر "التفرد"، وجعل نظام الحركة الداخلي معياراً لقياس منسوب مستوى الإيمان ومسطرة تقاس بها عقائد المخالفين، والميل نحو الاستئثار بالحكم وجعل المعيار لصلاحية الرجل بذاك المنصب هو مدى ولائه لنظام الحركة وليس مدى كفاءته العلمية.
ونعلم أنه لم يكن في صدر الإسلام مسطرة تقاس بها عقيدة المسلم، فكانت شهادة ان لا إله إلا الله محمد رسول الله تجعلك مواطناً في الدولة الإسلامية، ولك كافة الحقوق والفرص وعليك واجابات، فعقيدة الحاكم لا تعتبر معياراً لصحة العقائد الأُخرى ولا يوجد أحد يستأثر بالحقيقة لنفسه ولا تيار معين أو حركة معينة، والسؤال هنا من أين جاءت حركاتنا الإسلامية بهذه الأحقية في امتلاك الحقيقة وحدها!؟..
إنها عقلية القرون الوسطى التي تحكم هذه الحركات، لكن ولكي نكون منصفين هناك شخصيات متنورة ومفكرة داخل هذه الحركات لكن تأثيرها غير واضح لأن النهج العام أقوى منها والنظام الداخلي لا يسمح.
وفي النهاية علينا نحن المسلمين التفكير ضمن روح العصر، وعدم التخلي عن قيمنا ومبادئنا الأساسية، وعلينا التفكير بشكل جدي بتطوير تعليمنا، وتحديث أنظمتنا الاقتصادية والرعاية والضمان الاجتماعيان والصحة والقانون وتحقيق العدالة الاجتماعية والتخلّي عن فكر الحركات والتنظيمات والتيارات التي لا تستطيع قبول غيرها، و(لنفتح جميع نوافذنا على جميع الاتجاهات ولكن دون أن نسمح لأية ريح أن تقتلعنا).
محمّد ياسين نعسان
كاتب سوري