الاستبداد وضياع الهويّة



 

 

تتعدّد الهويّات بتعدّد مضامينها وأطرها وتتسع أو تضيق بحسب نطاقاتها وخصائصها، كما تتحدد هوية الفرد تبعاً لوعيه وثقافته وقيمه دون إغفالٍ لمشاعره ونَسَبه وسماته الذاتية والموضوعية، ويمكننا الحديث عن عديد من الهويّات التي يحملها الكائن في الوقت نفسه تتوزع ما بين الأصيل والدخيل، فذات هذا الكائن إنسانٌ مولودٌ لأسرة لها معتقدها ومذهبها، وينتمي لقبيلة وعشيرة وعائلة، ويعيش في حيّ أو قرية، مدينة ودولة وقارة، ويتخصص في حقل معرفيّ ما، ويزاول عملاً، ويؤمن بفكر، وينتسب إلى نقابة وحزب، وهو كاتب وموسيقي...إلخ. 

وبالرغم من أنّ الهوية انتماء يقرّره الشعور الذاتي للفرد إلاّ أنّ للمجتمع الذي يعيش في كنفه ويتفاعل معه، وكذلك للمجتمعات الأخرى، دورٌ وقرار في وسم هذا الشخص وتعيين هويته، من خلال بيئته وما يحمله من صفات وخصائص بيولوجيّة وثقافية واجتماعيّة يتميّز بها. 

لا ينفي ما سبق أنّ الهويّة ليست أمراً ثابتاً عصيّاً على التحوّل والتغيير والاستبدال، بل هي وضع وموقف، وسلوك يمتلك قدراً من الحيوية والمرونة يتأثر بالقيم السائدة أو المفروضة، ويستجيب إلى حدّ بعيد لنشاطات القوى الفاعلة في السلطة والمجتمع، فإذا كان المكان واللغة عامة والعقيدة وقيم المجتمع بخاصّة هي الخصائص الأكثر أهمية والتصاقاً بهويّة الفرد، فإنّ للنظام السياسيّ المهيمن وبقية النظم المتداخلة الاقتصادية والاجتماعية والدينية والثقافية قدرتها على الترويض وعلى إحداث تغييرٍ جذريّ في تلك الخصائص وصولاً إلى انتزاعها واستبدالها.

في عالم يجنح نحو القيم المائعة المضادة للطبيعة الخيّرة للكون والخلق، تبرز المبادئ، كذلك القيم الإنسانية والوطنيّة، كحجر أساس في نهضة الدول وعماراتها القويّة المزدهرة، المصونة والمحصنة بقدرات شعوبها وطاقاته الإبداعية في المجالات كافة، ولعلّ النظم التربوية والثقافية ومضامينها وأساليبها وأدواتها هي الأهمّ على الإطلاق في بناء هوية المواطن الإنسان المعتدّ بشخصيّته، والمزهوّ بانتمائه الحرّ النابع من شعورٍ عميق بالحبّ والامتنان للمكان والناس، ولسماته وخصائصه المتفرّدة التي تميّز هوّيته الثقافيّة والحضاريّة. لكن هذه القيم والمبادئ لا يمكن لها أن تنمو وتثمر في دولة ليست كالدول، إنما هي أشبه بالمعتقل، يحكمها ويسود فيها الطغاة والوحوش كحال سوريّة الأسد. 

يشكل الدرس السوريّ أنموذجاً فجاً وصادماً يمكن قراءته بعمق وتحليل النتائج الكارثية لحكم الطغم العسكرية المافيوية وأساليبها المدمّرة لمظاهر الحياة جميعها، سلسلة من الانهيارات الشاملة للبدهيّات والمفاهيم والأسس النظريةّ والعمليّة، ولحقول لثقافة والفكر والفنّ والإبداع، وللعلوم والمعارف، وللإدارات والمؤسسات، وللذات الإنسانية الفرديّة والجمعيّة، وقبل ذلك وبعده للهوية الوطنيّة وللوطن. 

إنّ بناء الهويّة الوطنيّة يتطلب انتزاع الحرّية وتحطيم مخالب غاصبها، واستعادة الذات الإنسانية والهوية المضيّعة وتخليصها من العوالق والأوشاب التي خالطتها وشوّهت صورتها. لا وجود للهويّة الوطنيّة في ظل الاستبداد والطغيان، بل لا وجود للوطن نفسه كمفهوم حيث ينتفي وتُنتزع روحه ليغدو خيمة ممزقة مطبوع على قماشها المهترئ صورة المستبدّ واسمه وخاتمه الرسميّ، كذلك فإنّ قاطني هذه الخيمة سيتعرّضون لمحاولات تجريف كل ما يمتّ لانتمائهم الوطنيّ والاجتماعيّ والإنسانيّ، سيخضعون لتجارب واختبارات لا نهاية لها بغية استئصال بؤر المقاومة وعوامل التفكير وأجهزة الامتناع والرفض، واستبدالها بأسباب الخضوع والذلّ والخنوع.

في معقل الاستبداد يتوقف الزمن ويعتم المكان وتضمحلّ صورة الإنسان، فترتقي صورة الوطن إلى بارئها، وتمحي خطوط هوية الإنسان لِتُسوّد صورةُ المستبدّ ما تبقى على صفحتها من بياض. 

ليس ثمة هوية لمجتمع العبوديّة سوى هويّة الطاغية فالأرض مزرعة له ولقطعان عائلته، ولا تاريخ سوى ما تتركه في الكتاب المدرسيّ من أثرٍ حوافرُ فقهاء المستبدّ وكتبته من المرتزقة ومصّاصي دماء الحقيقة، ثمّ إنّ التاريخ يبدأ بإعلان الطاغية المتوّج بأكاليل جرائمه الانتصار على ما تبقى من شعب يتيم تغافل عنه الموت، ونسيته الحضارات وأهمله المؤرخون، فأصبح أفراده أسرى الخوف والوهن والإحساس بالدونيّة، مجرّد نكرات وإمعات تعرّف عن نفسها بما لقنتها به آلاته الجهنمية وغربان ليله الذي لا آخر له. 

أية هوية وطنية لمهجّرٍ لا وطن له سوى القهر والفجيعة والألم، بلّ أية هوية يمكن أن تمنحها بقايا خيمة لحاملها وقد استحالت أسمالاً وخيوطاً حائلة اللون...؟ أيّ وطن يمكن للساري على حافة تنذر بهبوط السماء وارتقاء الأرض وبسقوط كلّ شيء، يمضي غريباً إلى حيث لا مكان ولا أحد ولا شيء غير اللاّ...؟ 

 

 

علي محمد شريف

رئيس القسم الثقافي

Whatsapp