انقلاب المشهد


 

                                                                                                         

لطالما استوقفني سؤال لم أجد له إجابة مقنعة حتى فترة قريبة. السؤال كان من وحي الإنقلاب الذي شهدته تركيا عام 2016 وانتهى كما نعرف جميعًا على الرغم من استمرار توابعه واستطالات تداعياته بشكل من الأشكال حتى الآن. والسؤال يقول: ما الذي يدفع شخصًا لأن يستلقي أمام دبابة يمكن أن تسحقه بجنازيرها ليمنعها من التقدم؟ ما الذي دفع الأتراك بمختلف مشاربهم إلى التصدي للانقلاب ولم يرفع أحدهم، مؤيدًا كان أم معارضًا، صورة لأحد كما اعتدنا في بلداننا؟. 

وجدت أجوبة كثيرة: الوطنية، كره الأتراك لنتائج الانقلابات، الديمقراطية التي دفعوا ثمنها غاليًا، الحرية التي يتمتعون بها، وكثير غيرها. والحقيقة أنها أجوبة قد تبرر لكنها لا تقنع. فهناك من خرج ضد الانقلابيين وهو أصغر من أن يخبر معنى الإنقلابات الماضية، وهناك من كان وطنيًا ودعم تلكم الإنقلابات في حينها لاعتبارات شتى. هي أجوبة يمكن تفنيدها بسهولة وبساطة. وبقي السؤال قائمًا حتى وجدت الجواب في صور مثلتها العلاقة القائمة بين الدولة والشعب خلال الكوارث التي حاقت بتركيا في الأسابيع الماضية والموقف الرسمي من الإبتلاء العام. 

الصورة الأولى هي مشهد وزير الخارجية التركي وهو يقبل يد عجوز تبكي خسائرها لتسند رأسها على كتفه وهو يطمئنها قائلًا (وأنا هنا أنقل الحوار بحسب الترجمة الملحقة بالفيديو): 

الوزير: حمدًا لله على سلامتكم

العجوز: سلمت (وتربت على ظهره)

الوزير: حماكم الله مما هو أسوأ. لا تحزني فليست هناك خسائر بشرية. احترقت 10 منازل وسنعيد بناءها. الرئيس يقرئكم السلام.

العجوز: وعليكم السلام.

الوزير: هو اليوم في قسطمونو حيث كارثة الفيضانات. المهم أنه لم يصبك سوء والباقي كله نعوضه بإذن الله فلا تنزعجي أبدًا. سنعيد إعمار المنزل وسنعوضك عن المواشي. سنفعل كل ذلك. 

العجوز: أتيتم إلى هنا مثل الغيث لمساعدتنا.

الوزير: نعم. الوالي وأعضاء مجلس النواب والرؤساء والمديرون كلهم أتوا من أجلكم.

العجوز: عافاكم الله. (ينتهي المشهد).

الصورة الثانية هي صورة عائلة الشاب التركي القتيل وأحدهم يقول (وأنا هنا أنقل الترجمة كما وردت في الفيديو): لا نريد أن نذهب ونقوم بالإعتداء على سيارات السوريين ولا ضربهم. قطعًا لا نريد فعل شيء كهذا. ثم يتحدث والد القتيل فيقول: أنا أب حزين. لقد فقدت ابني، فقدت العالم، لقد قالوا بعض كلمات أحزنتني. لم أستطع مساعدة نفسي، أكذب إن لم أقل أن اليوم هو يوم خسارتي، أنا دائمًا بجانب الحقيقة، أنا لدي دولة، في كل مرة ألتفت بها أجد دولتي ورائي، رئيس البلدية والقائم مقام والوالي. لقد أصبحنا معًا يدًا واحدة تضامنا مع بعض، ويجب أن نكون دومًا يدًا واحدة. يجب أن نحافظ على دولتنا لا أن نخسرها. دولتنا كبيرة. عندما فتحت عيني وجدت الدولة بجانبي، ليحمهم الله وليبارك لهم.

الصورة الثالثة هي صورة المواطن الذي انتفض في وجه الافتراءات على السوريين والادعاء بأثرهم السيء على اقتصاد البلاد قائلاً: من قام بدعم الدول في الأزمات؟ أوروبا، سورية، العراق، غيران. بلدنا في أحسن حال فلا يختلق أحد الكذب. يوجد وباء ويوجد آفات، طبيعي. عند الوباء قدمت الدولة مساعدات كثيرة.

ثلاث صور ارتبطت معًا لتأتي بالجواب على السؤال الذي بقي عالقًا بلا إجابة لسنوات. هناك عقد اجتماعي جديد تمت كتابته بين الدولة والشعب في تركيا وتطبيقه على أرض الواقع مفاده: الدولة من الشعب وللشعب وفي خدمة الشعب. ومن استلقى أمام الدبابة كان يحمي وطنًا ولا يدافع عن سلطة كما يحدث قريبًا من تركيا.

ويطل السؤال برأسه: هل نحن أقل منهم انتماء حتى تركنا بلدنا بالملايين وتشردنا في أصقاع المعمورة؟ بالطبع لا، وإلا ما قدمنا أكثر من مليون شهيد وجريح ومعاق ومعتقل. لكن النظام، وعلى مدار نصف قرن من الزمان، استطاع أن يشوه العلاقة بين المواطن والوطن حين ألحق هذا الأخير بخانة الحاكم وحوله إلى ملكية خاصة وجعل المواطن مجرد هامش يكتب عليه خربشات تافهة.

تنقلب الصور، إذن، في بلدان لا تقبع بعيدًا عن تركيا، فنجد الشعب في خدمة النظام مخلدًا الجملة التي أحيت الأصنام مجددًا: "البلد وقعت لكن جمالًا لم يقع". لنجد رغدة وهي تطالب الأسد باستعمال الكيماوي ضد معارضيه، ونرى الفواخرجي وهي تستهزئ باللاجئين، ونرى زهير عبد الكريم يسجد ويقبل البسطار العسكري، ومن يصفق لعائلة الأسد وهم يتناولون الشاورما ووراءهم تمتد طوابير من ينتظرون الخبز أطول من صبرهم.

لنعترف أن تركيا تسير على درب صناعة وعي جديد للشعب، وأنها أوجدت بالفعل شكلًا جديدًا من الانتماء لدى المواطن، وشكلًا جديدًا للعلاقة بين المواطن والوطن: أنا الوطن والوطن أنا. ولنعترف أن حكام العرب مسحوا آخر آثار الوعي لدى شعوبهم واستبدلوه بسهرات التسرية والوناسة، واختصروا الوطن بأنفسهم فإن انتهوا انتهى. 

لنعترف أن تركيا علمت الشعب التركي أن المسؤولين خدم وليسوا آلهة، وأن حكام العرب جعلوا شعوبهم عبيدًا لهم.

لنعترف أن النموذج التركي يحارب من قبل النموذج العربي لأنه أكبر خطر وجودي يحدق باستمراريته، ولن يفتر النموذج العربي عن إغراء الأعداء ودعمهم بالعدة والعتاد حتى يسقط النموذج أو يحجمه على الأقل ليظهر لشعوبه النعمة التي يرفلون بها وكانوا ينامون على ذل في العراء، وصاروا يبيتون على الهوان في بيوتهم.

 

 

محمد أمين الشامي  

كاتب سوري                 

Whatsapp