طالما كانت الجوارب في نظري واسطة منطقية بين برودة الطقس؛ وبين نهايات الحس المنتشرة على طول القدم وعرضها، وتعتبر أيضاً واسطة خير بين بشرة القدم وجوف الحذاء الناعم خلال الأيام الدافئة.
ثابرت على شراء جوارب بلون واحد قاتم، أسود أو كحلي غالباً، بلا أية رسوم أو زركشات أو تداخل ألوان، هي جرابات اللون الواحد، والاستهلاك طويل الأمد، حيث أستغلها لآخر رمق منها، إلى أن تتوسع الفراغات بين النسيج، وتتنافر الخيوط قليلاً، فيظهر خيال القدم واضحاً للعيان.
تأسرني نقاط الاحتكاك مع جوف الحذاء، حيث تظهر مساحات اهتراء صغيرة، جهة الأصابع والأعقاب خصوصاً تشهد على عمق العلاقة وكثرة الاستعمال، فتعطيني إحساساً بالرضى ناجماً عن قناعاتي باستغلال كل الموارد المتاحة وتحقيق الاستفادة القصوى منها، وقناعات أخرى تتعلق بالأثر فالاهتراء أثرنا، ويثبت أن لنا فعل، وللزمان رد الفعل.
يشهد الاهتراء أيضاً على كل المشاوير التي استفزّتني، على كل خطوة خطوتها في هذا الطريق الطويل.
للعلم، فإن أصابع القدم تحمل نفس أسماء أصابع اليد، وبذات الترتيب، الذي يهمني هنا، هو أن سبابة قدمي اليمنى قد أبصرت النور مؤخراً، بعد أن شقت طريقها خلال ظلام جوربي الأسود، مع أنه لم يتآكل بعد، ربما سبابة قدمي هي من ناضلت وكافحت بالأسنان وبالأظافر لتصل إلى حريتها المنشودة، مستمتع بحرية الحركة التي نالتها، وكأنها ملكت الفضاء الرحب.
زوجتي تعترض وتمتعض، وتطلب مني الاستغناء عنه، فأمانع، لا أدري لماذا أرفض؟!، أحياناً هناك العديد من الأسباب النفسية والدوافع الفكرية والعاطفية التي تقودك لارتكاب الممنوعات، كنوع من تحدي الذات، والخوض في مغامرات ولو على حساب مظهرك الخارجي أو التضحية به كلياً.
أكثر من ثلاث مناسبات اجتماعية والعديد من السهرات العائلية أحضرها بجورب مثقوب، يطل أصبع السبابة من جحره الضيق كأرنب أبيض، في حالة استطلاع فريدة، ربما يحاول أن يفهم ما يجري خارجاً، لينقل الصورة بكل أمانة لأخوته الأسرى هناك، في ظلمات الحذاء يمارس أيضاً هذه المهمة، يرتجف قليلاً خارج سرب الدافئين، لا بأس للحرية ثمن، لكنه سعيد بها.
سارت الأمور بشكل جيد، بيني وبينه، وصرت أطمئن عليه دورياً، أنظر إلى قدمي اليمنى فلا أرى إلا شكله الفريد وسط السواد، لا يشغلني عنه حتى الضيوف، تدور أحاديث شتى وأنا أسترق النظر إليه وأبتسم ابتسامة الرضى.
بطبيعة الحال لم أضطر للخجل أو الحرج من الثقب الفجائي بالعكس تماماً، لذلك لم أكن مضطراً لإخفاء قدمي اليمنى، تصالحت مع الجورب المثقوب، تعاملت معه وكأنه الحالة الصحية والطبيعية للجوارب طويلة الأجل.
وأنا أمشي أحرك أصبعي ببطء فيما يشبه الاطمئنان عليه، لحركته داخل الحذاء إحساس لذيذ يختلف عن حركة وملمس المقيدين.
أحركه وأنا واقف في طوابير الخبز، في سيارات الأجرة، عند طبيب الأسنان، عند التفكير في موضوعات مصيرية.
وفي مقابلات مفوضية اللاجئين بين كل سؤال وسؤال أطمئن عليه، أحرِّكه، أشعر بالمساندة من طرفه، تنتهي المقابلة بسلام، نخرج من باب المفوضية، أنا وهو، أعده بالسفر إلى كندا، وأردد أغنية لفيروز بقد الحلم:
بيت صغير بكندا...
محمد الحمد
كاتب سوري