من أهم الأشياء التي يلقّنها لنا العالم الحديث أو عالم ما بعد الحداثة الذي نعيش فيه، هو أن الواقع المعاصر الذي نحن فيه فريد للغاية بالنسبة إلينا.
لا شك أن هذه الشعور بالانفرادية ووهم الاختلاف مرتبط بالغرور الذاتي المفرط لدى الإنسان الحديث.
كلما توجهنا نحو الماضي وعثرنا على أشياء تستحق التقدير سواء كانت عبارة عن أثر فكري أو عملي؛ فإن إعجابنا بذلك لا يكون نابعًا من إعجابنا بهم بل من إعجابنا بأنفسنا، لأن إعجابنا مرتبط بفكرة تميّزنا ووصولنا إلى نقطة لا يمكننا فيها نسبة أي محور من محاور الذكاء والفكر والتطور لأحد من الماضي.
إن علاقتنا بالمعرفة بدلًا من تجعلنا ندرك حقيقة موقعنا على هذه الأرض، فإنها تزيد مع الوقت من إعجابنا بأنفسنا وتعالينا وبالتالي تزيد من جهلنا. نعتقد بأن كوننا أصحاب معلومات هائلة ومعرفة ضخمة من شأنه أن يحدث فرقًا لنا عن الآخرين. وبهذا الطريقة سرعان ما نقع في غفلة مطبقة حسب الحكمة السقراطية الشهيرة، أو كمال قال "يونس العاشق": نحن نبتعد بشكل سريع عن الوعي بأن العلم هو معرفة العلم ذاته وبالتالي معرفة الإنسان ذاته.
لن نتمكن بهذه الطريقة من إقامة صلة بين واقعنا والتاريخ. حينما نقول "تاريخ" فإننا لا نتحدث عمّا وصلنا من تراكم عبر التاريخ أو الآثار التي عشناها من ذلك التاريخ، بل نتحدث عن أبعاد تكرّر الأحداث، فما يحدث لنا قد حدث لمن سبقنا. أو ليس ذلك هو الجانب الذي يمثّل أخذ العبر والدروس من التاريخ؟
لسنا الوحيدين في هذا العالم ولا في تاريخنا، لسنا المثال الوحيد من نوعه، ولسنا الأمة الوحيدة عبر التاريخ بل هناك أقوام وأمم عبر التاريخ الطويل عاشت ما عشناه، أمم قد خلت وانتهت صفحتها كما ستنتهي صفحتنا يومًا.
التاريخ يعني استكشاف أحوال من سبقنا ومعرفة كيفية عاشوا ما نعيشه نحن اليوم، وردة فعلهم على ذلك، وإلى أين وصلوا وما شابه. بمعنى آخر، التاريخ هو دراسة الجوانب التي تربط بين الحاضر والماضي، لا الجوانب التي تفصل أو تميز بينهما. خلافًا لذلك، فإن الفكر التاريخي ما يقتصر على التأكيد على أصالة وتميّز الحاضر لن يكون دوره سوى تمجيد أناس الحاضر وتعظيمهم حتى يتعالوا ويتجاوزا حدودهم.
لقد حاول ابن خلدون أن يطوّر مفهوم التاريخ من خلال التاكيد على الجانب الذي لا يتغير مع تغير الوجود البشري عبر التاريخ. لقد حاول كشف وتحديد القوانين الوجودية التي يخضع لها صعود أو سقوط الدول والمدن والحضارات، من خلال نمذجة المدن والدول والحضارات وأنماط الحياة التي يطرحها الناس.
يصف ابن خلدون إلى تلك القوانين الوجودة التي حددها بأنها سنة الله في الأرض، مشيرًا إلى أن التشابه بين التجارب التي طرحها الناس في أوقات مختلفة كبير كشبه الماء بالماء.
ومن خلال هذه النظرة، يمكن أن نرى الطريقة التي سيطر بها الوباء على حياتنا ونحن في ذروة العولمة، لا يعتبر فريدًا خاصًّا بعصرنا إذا ما استثنينا النطاق العالمي لانتشار الوباء، ومع ذلك فإن ابن خلدون يقرأ آثار الأوبئة في التاريخ ضمن إطار تلك السنة الإلهية. هذا يعني أن ابن خلدون لم يعتقد يومًا بأن ظهور الأوبئة/الطواعين وانتشارها أمر عرضي على الإطلاق.
وفي الفقرة التالية التي يشرح فيها ابن خلدون أسباب ارتفاع الوفيات، لا تقتصر على سرد تأثير الأوبئة بل العواقب أيضًا:
"وأما كثرة الموتان فلها أسباب من كثرة المجاعات كما ذكرنا، أو كثرة الفتن لاختلال الدولة فيكثر الهرج والقتل، أو وقوع الوباء. وسببه في الغالب فساد الهواء بكثرة العمران لكثرة ما يخالطه من العفن والرُّطُوبَات الفاسدة، وإذا فسد الهواء وهو غذاء الروح الحيواني ومُلاَبِسُهُ دائماً فَيَسْرِى الفساد إلى مزاجه، فإن كان الفساد قوياً وقع المرض في الرئة وهذه الطواعين وأمراضها مخصوصة بالرئة، وإن كان الفساد دون القوي والكثير فيكثر العفن ويتضاعف فتكثر الحُمِّيات في الأمزجة وتمرض الأبدان وتهلك وسبب كثرة العفن والرُّطُوبات الفاسدة في هذا كله كثرة العمران وَوُفُورُهُ آخر الدولة. ولهذا تبين في موضعه من الحكمة أن تخلل الخلاء والقفر بين العمران ضروري، ليكون تموج الهواء يذهب بما يحصل في الهواء من الفساد والعفن بمخالطة الحيوانات ويأتي بالهواء الصحيح. ولهذا أيضا فإن الموتان يكون في المدن الموفورة العمران أكثر من غيرها بكثير، كمصر بالمشرق وفاس بالمغرب".
كما يخبرنا ابن خلدون أن المجتمعات البشرية تتعرض للأوبئة بشكل دوري على أساس من الصلة بين الوبئة وبين تجارب ومعيشة تلك المجتمعات. ويعقد ابن خلدون على وجه الخصوص علاقة بين الأوبئة ودلالات الأبراج، كما يؤسس علاقة مترابطة بين الأوبئة الدورية وشيخوخة الدول ومراحل فتورها. حيث يقول؛ "والقران الكبير يدل على عظام الأمور مثل تغيير الملك والدولة، وانتقال الملك من قوم إلى قوم، والوسط على ظهور المتغلبين والطالبين للملك، والصغير على ظهور الخوارج والدعاة وخراب المدن أو عمرانها. ويقع أثناء هذه القرانات قران النحسين في برج السرطان في كل ثلاثين سنة مرة ويسمى الرابع. وبرج السرطان هو طالع العالم، وفيه وبال زحل وهبوط المريخ، فتعظم دلالة هذا القران في الفتن والحروب، وسفك الدماء، وظهور الخوارج، وحركة العساكر، وعصيان الجند، والوباء والقحط، ويدوم ذلك أو ينتهي على قدر السعادة والنحوسة في وقت قرانهما على قدر تيسير الدليل فيه".
بالطبع ليس من السهل على عقولنا اليوم أن نتخيل هذه العلاقات في الوباء الذي نعيش فيه. لكن مع ذلك ألا تعتبر هذه السطور دافعًا لنا نحو معرفة أي نوع من السلوك الذي جعلنا نواجه وباء من هذا النوع؟