هناك على الضفة الأخرى من النهر


 

ثمة دائماً ما لا تعرفه وما لم تفكر به أو تمسسه حواسّك المتوفّزة، أماكن لم تزرها وإنسان ينتظر مصافحة قلبك، غيمة لم تغتسل بها روحك وهواء لم تتنفسه بعد. 

يكفي أن تتجرّد من سلاسل القلق والريبة والخوف وأن ترتدي حرير الحلم، أن تتزّنر بالرغبات اليانعة وبصورة عتيقةٍ لحياةٍ كانت خضراء ذات ولادة، أن تغادر محطات الانتظار وتشرع للريح مراكبك المهملة، أن تدع الأرصفة اللزجة عارية من خطواتك العابثة وتقفز بخفّ أبيض، هناك على الضفة الأخرى من النهر حيث تزهر أغصان قلبك وتضمّ إلى أعطافك روحك المفارقة، تسمو بزرقتها السماء وتنهد من وراء الأفق أرض لم تطأها حوافر الضواري ولن يدنس ترابها رجس الطغاة، هناك بين غابات الحور والسرو والصنوبر ستجد ما ينتظر استمطار دهشتك ويخطف الشهقة من كهف صدرك.  

ما أشدّ بؤس من يتلذّذ بالتلصص على بهجةٍ لا تخصّه وفي تمنّي ما ليس له، سيكتفي من الحياة بأقلّ من حياة وبموتٍ يطوّق بعزمٍ سريره الذابل. ثمة شجرة وحيدة تفرد ظلالها ومقعد شاغر لمتعبٍ يحجب عينيه عن الطريق ذعرٌ من عتمةٍ وبردْ، وانشغالٌ بأشجار وظلال ومقاعد مشغولة بأصحابها.

الحياة أوسع من تصوّراتنا مهما تشعبت أو اتسعت، والطبيعة أبهى وأنقى كلما ابتعدنا عن التدخل في قراراتها، هي بالتأكيد أكثر حكمة وخبرة فيما يصلح لها ويجملها ويرتقي بها. المعرفة، وهي الغاية من وراء ما ينفقه الإنسان من وقت وما يبذله من جهد عقلي وبدنيّ، لا تكفي إن لم تقترن بالاستجابة لما تقتضيه الكشوف المعرفية من انفتاح على ما يخالف ثوابتنا المهلهلة ومن تجديد في الرؤى والأفكار والقناعات، لا يقينيات فيما يسفر عنه الحفر المعرفيّ، فما سيبدو لنا بناءً محكما سرعان ما تتخلخل أسسه بظهور أبنية أشدّ صلابة وإحكاماً.  

لو أنّك لا تكفّ عن النداء والشغب أيّها الإنسان. هذا الكون بعناصره وموجوداته يستصرخ ذاته المتمرّدة في طيّات صورتك الخانعة، لا يتوانى عن قرع أبوابك الموصدة أمام الحريّة والحبّ، وعن الاتصال بك والاشتباك مع دفاعاتك الغبيّة، أسوارك بنتها يداك، وتلك الخنادق المتوهمة والأسلاك الزائفة من صنع مخيلتك الصدئة. حواسك الخمس المتصلة بالدماغ لن تكفي لفهم العالم المحيط بك وعلاقاته شديدة الغموض والتعقيد، لا بدّ من استخدام حواسك الخفيّة المتصلة بالقلب، تستطيع أن تعرف وتشعر وتفكر وأن تقرّر أيضاً بقلبك.

إنكارك وجود ما لم تره أو تشعر به لن يلغي واقعة وجوده وأنه هناك لدى أحدٍ ما، لعله مثلك، يمثل حقيقة مطلقة لديه وربما وحيدة. لا يمكنك، ولا ينبغي، رفض فكرة لم تخطر في ذهنك، ولا تسفيه فرضية تناقض ما تعدّه بداهة لا تقبل الدحض أو الشكّ، كذلك ليس من الإنصاف أن تحاكم وتقضي في حدث ما لم تعش حقبته وتطلع على تفاصيله ومجرياته وظروف حدوثه.

لست أكثر من كائن هشّ وضعيف مهما بلغت من القوة والحكمة والمعرفة فأنت إنسان، بل إن قوتك تكمن في إخلاصك للإنسان الثاوي في داخلك، وفي مدى إدراكك لحقيقة ضعفك الإنسانيّ النبيل، ثمّ إن مقتضى الحكمة والمزيد من المعرفة سيدفعان بك للاعتراف بمحدودية ما تمتلك من إجابات أمام لا نهائية الأسئلة التي تولد وتتكاثر في متوالية لا أوّل لها ولا آخر.

الانتماء للإنسانية ليس مسلمة قدرية وبيولوجية، إنه الإرادة والقرار والامتثال، حين يذهب العقل بصاحبه إلى المسالك الوعرة للخطيئة لن يكون بوسع الروح سوى التنصّل والفرار، وسيكفّ القلب عن أن يكون دليلاً ومرشداً، أما الجسد، وما يتصل به من حواس وأعضاء، فليس أكثر من رداءٍ خادع ومضلل لا يملك غير التوسّل والخنوع والخضوع، الانتماء للإنسان قرار جريء يتطلب الإرادة الصلبة والقلب الشجاع والعقل المستنير، أما أن تغدو وحشاً ضارياً بلا روح ولا قلب فسلوك جبان إذ ما أسهل الانسياق الأعمى خلف مطلق الرغبات والشهوات المنفلتة، والتخلي عما تشترطه الإنسانية من حرية ومسؤولية والتزام بالمبادئ الطبيعية والقيم السامية. 

 

علي محمد شريف

رئيس القسم الثقافي

 

Whatsapp