الحرية والقداسة


 

 

في البدء كان الإنسان حين لم يكن أمام نشوره على الأرض حدودٌ وحواجزُ وعسكر، وحين لا آمر لقلبه غير الحبّ ولا سلطة تتجرّأ على عقله سوى السلطة الكامنة في شهوة المعرفة. متجرّداً من كلّ ما يحجب عن حواسّه إبداع الخالق وتجليات الجمال اللامتناهي في خلقه وُجد الإنسان كيما يصون الأمانة ويحمل عبء السؤال. 

لم يكن ينقصه الوعي ولا كان يفتقد للإرادة حين قبل بالمجازفة في خوض غمار الحياة بكلّ ما تعنيه لحظاتها من غبطة وحزن، ودهشة وخيبة، ونشوة وألم، وحلم وانكسار، وكان لديه ما يكفي لمواجهة الطبيعة وما تكتنفه من غموض وسحر وهيبة، فهو مزوّد بالعزيمة، وبأجهزة وتقنيات غاية في التطوّر والحداثة قادرة على فكّ الرموز وايجاد الحلول، وابتكار الأدوات اللازمة لترتيب مسكنه الكوني، وترويض كائناته الحرونة والمستوحشة. 

لعلّ الغرور والإهمال، والتغافل عن حكمة الوجود من جملة الأسباب التي أدّت إلى العطب الذي أصاب ملكات الإنسان، وأحدث مناطق مظلمة في عقله، وأنبت بذور الخوف في جوفه، فبات أسير الشهوات العابرة والرغبة الجامحة بالتسلط، بل وقاده جهله إلى البحث عن إجابات منسية، وإلى التيه وتوهم المقدّس، بل وابتداعه بعيداً عن اليقين الذي لم يغادر قلبه. 

لطالما ارتبط الخوف بمشاعر وأفعال متباينة تتأرجح بين الانقياد والتمرّد، فقد جنح الإنسان منذ التيه الأول على هذه الأرض إلى محاولة فهم الوجود وتفسير ظواهره المبهمة والمدهشة، وكان أن دفع الخوف بالإنسان إلى إضفاء القداسة على كلّ ما يخاف منه ويخشى عليه، كما أنّ مصالحه المادية حثّته على تقديس ما ظنّه سبباً في استجلاب الخير واستبعاد الشرّ، فكان أنْ ألّه وعبد بعض مظاهر الكون وكائنات الطبيعة من حيوان وبشرٍ وحجرْ.

لعلّ الضحيّة الأبرز للخوف هي الحرية إلى جانب إنسانيّة الإنسان إذ تقترن بها وجوداً وعدماً، وإذا كانت الحرية فضاءاً لاكتشاف الذات ونوازعها المادية وميولها الفكريّة والعقائدية، فإنها شرط للتفكير والاعتقاد والحبّ والتقديس، ولاحترام الاختلاف فيما هو مقدّس عند الآخر والدفاع عنه وعما يراه مستحقاً للقداسة، مع ذلك لا يمكن الدفاع عن فكرٍ تمييزيّ يؤسس للكراهية ويشرعن العنف، ولا احترامُ عقيدةٍ تسلب حقوق الآخر وتنكر عليه حريته في التفكير والاعتقاد المغاير. 

في الحديث عن المقدّس تبرز العديد من الأفكار والتساؤلات حول معنى المفهوم ودلالاته ودوافعه، وتأثيراته على سلوك البشر وطرائق تفكيرهم ومواقفهم تجاه غيرهم من الجماعات والأفراد، كذلك فإنّ مجرّد ذكر المقدّس يستدعي في الذهن حضور ما يقابله على الطرف النقيض منه أي المدنّس، ولعلّ هذه الثنائية لا تخرج عن فلك عديد من التثنيات، اللازمة لتوازن الكون واستمرار الحياة، القائمة على التضاد كالليل والنهار والخير والشرّ والحياة والموت...

القداسة بما تعنيه من جلال وطهر ونقاء، وبما تنطوي عليه من عظمة وسموّ تنتفي عن الجزئي والزائل، إن تقديسنا لمن نحبّ لما يحمل من صفات الجمال والنبل ولما يتمثل من قيم ومبادئ سامية هو تعظيم لذات الإنسان فيه وليس لشخصه كفرد، إنّ ما يستحقّ التقديس هو المثال وهو المطلق الأبديّ الذي تتحقق به سعادة الإنسان ويظهر حقيقة جوهر الوجود الإنسانيّ المبنيّ على القبول بالآخر المختلف شريكاً حتميّاً، وندّاً في البناء والإبداع وفي تعزيز منظومة المبادئ والقيم الجمالية والإنسانية، ليس للحبّ أن يولد في ظلّ الخوف ولا يمكن للنقائض أن تجتمع على قرار إنما هي في صراع وجوديّ مستمرّ يقتضي حضور إحداها غياب الآخر. 

فإذا كان خوف الإنسان من المطلق الغيبيّ مفهوما وله ما يبرّره فإنّ من غير المقبول خوف الإنسان من الإنسان وخضوعه وخنوعه له، والخوف شعور طبيعيّ أمام ما يهدّد حياة الإنسان وسلامته وأمنه، ثمّة استحالة في أن يعيش المرء بسعادة وسلام في كنف خطرٍ مهيمن يتربّص بكيانه ووجوده، ينبغي أن يدفعنا الخوف من الطغاة وبطشهم إلى التمرّد وإزالة مسبباته لا أن يجردنا من حريتنا وملكاتنا الإنسانية الجبارة فننساق إلى تأليه المدنّس وعبادته وتمجيد الخطايا والجرائم بحقّ الإنسان والطبيعة. 

لا قداسة بعيداً عن الجلال والجمال، ولما يسلب الإنسان حريته وإنسانيّته وقدرته، ويهدّد حاضره ومستقبله، إنّ التفريط بالحرية والتنصّل من المسؤولية، وتجاهل الوصايا التي التقت عليها تعاليم السماء والأرض، سيمكن طغاة الأرض وسفلتها من الفتك بالإنسان وهدر الحقوق، وشيطنة القيم والمبادئ الفضلى واستبدالها بأخرى تدعو إلى تدنيس المقدّس وتقديس المدنّس، ما سيؤدي إلى سيادة الشرّ وشيوع البؤس ومضاعفة الألم.

 

 

علي محمد شريف

رئيس القسم الثقافي

Whatsapp