لابد من العودة إلى البدايات في كلّ مرة يحدث فيها تطور في مواقف قسد، كي يتم الربط المنطقي بين الحاضر والأمس للوصول إلى نتيجة مرضية للعقل ومنسجمة مع السياق التاريخي ـ رغم قصر المدة الزمنية ـ منذ ولادة قسد وحتى اليوم.
ما يدفعني لذلك هو تصريح الناطق باسم قسد ( رياض درار) الأخير الذي أشار فيه إلى " مآل قوات قسد في نهاية المطاف أن تكون جزءاً من الجيش العربي السوري بعد التسوية السياسية". ولكن السؤال الذي قفز إلى ذهني مباشرة: ومتى كانت قوات قسد بعيدة عن جيش الأسد أو منفصلة عنه؟!!. فلقد عايشت بداياتها حينما دخلت جماعات "كردية" مسلّحة إلى مناطق عدة في محافظة الحسكة قادمة من كردستان العراق وجبال قنديل لتشكّل في البداية " وحدات حماية الشعب الكردي" وتصنع لنفسها وجوداً عسكرياً ومناطق نفوذ تحت مرأى ومسمع قوات نظام الأسد وأجهزته الأمنية ، حتى وصل بهم الأمر إلى احتلال مؤسسات حكومية في داخل مدينة الحسكة ورفع علمهم عليها وإجبار الموظفين على ممارسة عملهم تحت العلم الجديد، كنت يومها ما أزال في مدينة الحسكة وأتابع تمدّدهم في المدينتين الرئيستين في المحافظة ( القامشلي والحسكة) بالإضافة إلى سيطرتهم على حقول النفط ومنشآتها الكبرى في رميلان فيما كان نظام الأسد منشغلاً بحصار "غويران" الحيّ المتمرّد داخل مدينة الحسكة وقد أدار ظهره للميليشيات الأوجلانية التي بنت الحواجز واقتطعت جزءاً مهماً من المدينة لتضمّ أحياء ( تل حجر والناصرة والعزيزية والمفتي والصالحية) وقسماً كبيراً من مركز المدينة، ولم يتبقّ للنظام سوى شوارع محدّدة تربط بين مركز المحافظ ومقرّات الفروع الأمنية وقيادة الشرطة التي باتت تعرف "بالمربّع الأمني" .
لم يستحِ رجل الأمن "العتيق" منّي وأنا أتهم النظام بتسليم المحافظة للميليشيات الأوجلانية، حين ابتسم لي وهو يقول:" سلمناها لهم برسم الأمانة وبعد أن تنتهي ثورتكم، سنستردّ الأمانة"، كان واثقاً جداً مما باحه لي وغمزني بعينه مع ابتسامة عريضة:" اطمئن".
غادرت الحسكة في 2014 وكان آخر مشهد رأيته قبل المغادرة بأيام وظل عالقاً في ذهني هو دخول رتل ضخم من العربات العسكرية والشاحنات التي تحمل الأسلحة المتوسطة في جوّ احتفالي في شوارع " المربع الأمني" وهي ترفع صور عبدالله أوجلان والأعلام الملونة لكردستان وشارات النصر ترفعها الفتيات بلباسهم المموّه وقد اعتلين ظهر الشاحنات برفقة مقاتلي قنديل، ثم تجولت القافلة مروراً بكل المقرات الأمنية التابعة لنظام الأسد دون أن يثير ذلك من حفيظة أيّ من عناصر تلك المقرات الذين كانوا يحرسون بوابات مقراتهم وهم مدجّجين بالسلاح. حينها أدركت لماذا كان صاحبنا (رجل الأمن العتيق) واثقاً مما يقول.
عدت إلى الحسكة في 2017 بالطائرة التي هبطت بي مطار القامشلي الذي ما يزال تحت سيطرة النظام ولكن ما إن تخرج من المطار حتى تجد نفسك أمام حواجز الميلشيات الكردية إلى أن تصل مدينة الحسكة التي تستقبلك عند مدخلها بصورة عملاقة تكاد تغطي صوامع الحبوب تنافس في حجمها صور بشار الأسد ولكن لم تكن له بل لزعيم حزب العمال الكردستاني " عبد الله أوجلان".
إنّها قصة البندقية المأجورة والقضية الخلّبية والرواية التاريخية المبتورة لمرتزقة قنديل وبعض المرتزقة المحليين الذين ينطق باسمهم المدعو "رياض درار" ومن وراءه بيادق ولصوص يسافرون إلى دمشق وموسكو ليوهموا الآخرين بأنّهم أصحاب قضية ويفاوضون من أجلها، بينما في حقيقة الأمر لا يعدون أكثر من كومبارس يديرهم الكبار في مسرحية باتت فصولها مكشوفة ولا تنطلي على أحد.
ولابد للفصل الأخير من المسرحية أن نشهد اختفاء "قسد" كما اختفت صور أوجلان وكما اختفت "داعش" من قبل، ليبقى بشار الأسد على خشبة المسرح ينتظر مصيره الذي يقرره الكبار، والذي لايبدو مختلفاً كثيراً عن مصير الآخرين في لعبة تفتيت المنطقة التي تديرها القوى العظمى مجتمعة شرقاً وغرباً ـ لأول مرة ـ وما جمعهم سوى رعبهم من هذا المارد الذي استيقظ وهم يدركون أن هذه اليقظة ستكلّفهم كثيراً فيما لو امتلكت شعوب المنطقة قرارها وحريتها واستقلالها مع ما تمتلكه من قاعدة أخلاقية وفكرية وترابط اجتماعي وتاريخ عريق يضاف لها ثروات هائلة تجعلنا نتسيّد العالم كما تسيّدناه من قبل.
ياسر الحسيني
كاتب وإعلامي سوري