لديك الوقت كيما تكون إنساناً


 

 

الزمن أبدٌ دائم لا فصل فيه ولا انقطاع، لا يعرف أول له ولا آخر، هو بمنأى عن أن تدركه الحواس أو تلمّ به العقول، لكنّما آثاره الأعظم لا تخفى على الكون والكائنات، أما الوقت فمسافة بين فارزتين لا تزيد ولا تنقص، بعضٌ معلوم من كلّ سرمديّ، يبدأ بالولادة وينتهي بالموت. 

فائض الوقت 

على الحديد البارد يسند جسده الخمسينيّ المنهك من ضجيج وقهر وتعب، يمسح بأكمامه المسودّة قطرات العرق المتجمعة على جبهته، وبطرف ياقته يزيل الملح المتيبس فوق جفنيه وبين رمشيه، واجبٌ ثقيل ينتظره تجاه عائلته التي تفتقد وجوده ويحجب عن تفكيره حاجته الملحة للاسترخاء والنوم العميق. 

بهدوء وأناقة بالغين يترجل من عربته اللامعة، ضوء الشمس المؤذن بالغروب يشف عن جسد يافع يرفل بثياب فاخرة لا ينقصها الإتقان والذوق. معطف الجوخ يستلقي بطمأنينة على اليد اليمنى فيما تنشغل قبضة اليسرى بما تضمه من مفاتيح وهاتف وعلبة تبغ وولاعة مذهبة. ببطء شديد ومشية متبخترة يدلف إلى قاعة للهو والعبث تتربع على التلة المشرفة على البقعة الخضراء من مدينة مجهدة، ستنزع الساعات التالية عن جفنيه المتلبّدين الكسل المتراكم وتخرجه إلى حين من دوّامة مللٍ مزمن.

تتقاطع الدروب وتشتبك الرغبات بين من يتشهى ساعة يستلفها من وقته المأزوم بالأوليات الحياتية والمعيشية، وبين من تأكل الحيرة مخيلته اللعوب ويلهب ذهنَه بحثُه المحمومُ عن أوجه صرف الوقت وأساليب تبديده. 

وقت من حرير ووقت من دم

ثمّة من يستأثر بزهرة الوقت وثمّة من تخز روحَه أشواكُه المثلّمة. تلك هي القضيّة ربما، فالوقت لدى البشر يتجسّد معطى نفسيّاً وصورة للواقع وأبعاده المادية والروحية، يتخذ أشكالاً متعددة ومضامين تختلف بحسب التاريخ والجغرافية والمناخ الذي تشكل ملامحه خطوط الطول والعرض. شتّان بين من يخاصر الوقت، يراقصه، يتوسّل هنيهاته ألا تغادر إيقاع الفرح، وبين من تمتزج أنّاته بآناته متوسّلاً جسده المدمّى السقوط في بئر العدم.

مصرف الوقت

الوقت وديعة أودعها الخالق في خلقه وخصّ الإنسان بتمكينه من استثمارها وصرفها فيما تصوّر له حواسه ويرى عقله وقلبه. يبدو أمراً بعيد المنال شراء الوقت بالمال، كذلك فإنّ الحصول على مزيدٍ من الوقت المحدّد والمقدّر لأعمارنا ضربٌ من المستحيل، وبالرغم من الفروق الجوهرية بينهما إلاّ أنّ علاقة وطيدة تجمع الوقت بالمال، بل وتكاد تماهي بينهما، فالوقت كالسيف وهو من ذهب لدى أسلافنا، وهو المال عند الأمم المتحضرة، بله أهمّ المال لأنّه رصيد محدودٌ دائم النفاذ وما ينفق منه لا يستردّ. 

إنّ إدراك البشر حقيقة الوقت وموقوتية الحياة دفعت بالعاقل إلى الوعي برسالة الوجود وفهم مضامينها المقلقة، وإلى بذل وديعته في إنجاز المهام الأسمى المكلفّ بها، والامتثال للمبادئ والقيم، وسلوك سبل العلم والمعرفة وصولاً إلى السعادة والطمأنينة واليقين. 

لكنّ غير العاقل من البشر لم يعِ تلك الرسالة ووجد أن سعادته متحقّقة في تعاسة الآخر وبؤسه، إنّه دائم التفكير والبحث لزيادة ثروته وتوسيع دائرة سلطته معتقداً أنّ رصيده في مصرف الوقت قابل للزيادة، وربّما للتأبيد، إن هو طغى وتجبّر واعتدى على حياة الناس، وسلبهم حريتهم وأعمارهم وثمار جهودهم، فالخلود في جنّته الخاصة التي يسعى لامتلاكها لا بدّ من تسويرها بالجماجم وبملاط الظلم والقهر.

مع ذلك لديك الوقت 

هو كمثل الماء لا يكفّ عن التجدّد والجريان، وهو كما الأرض يزرعها مالكها بمقتضى علمه وإرادته ورغباته، فإن شاء أنبتت غابات من الجمال والفتنة، وقد يلتفت عنها فتبور وتغدو ملعباً للرياح والنوائب، أو ربما مستنقعاً تمرح فيه الضواري والقوارض. 

إنه الوقت، نسختك الزمنيّة ممهورة بالنقاء، رصيد حياتك الذي لن يشاطرك فيه أحد، ألوانك التي ستظلل روحك، وقتك الذي يكفيك كيما تبدع صورتك، يوماً ما ستكون الرائي الوحيد فارسم صورة الإنسان.

 

 

 

علي محمد شريف

رئيس القسم الثقافي

Whatsapp