حين تنهال عليك الإتهامات فراداً أو حزمة واحدة من أولادك الذين عايشوا الثورة ما بين منخرط في حراكها ومتحمّس ـ لم تسعفه سنوات عمره القليلةـ أن يصبح فاعلاً كغيره من شباب الحارة، وهم ينقلون لسان حال أقرانهم بأننا ( أي نحن جيل الآباء) انهزاميون وجبناء تخلّينا عن مسؤوليتنا التاريخية في مقارعة نظام الأسد، ورضخنا لحكمه البوليسي لعقود طويلة أوصلتنا إلى حافة الهاوية حتى بات أمر الخلاص منه يتطلّب تضحيات جسيمة وزمناً ليس قصيراً من العنف والمعاناة والموت، كان بالإمكان تجنّب كلّ ذلك لو أننا انتفضنا بوجه الأسد الأب وهو في بدايات حكمه قبل أن تستحكم قبضته على عنق البلاد ويكتم أنفاس الشعب.
طوال سنوات الثورة كنت أسمع هذه الإتهامات بحق جيلنا ( الستيني) الذي كان ابن العشرين تقريباً يوم استولى حافظ الأسد على الحكم، أي في عز الشباب ( كما يقولون)، وكان السؤال الدائم يدور على ألسنتهم:" لماذا لم تقوموا بالثورة بدل أن تلقوا هذه المهمة علينا بعد أن استفحل الورم السرطاني وتغلغل في كل أنحاء الجسم ؟".
أسئلة مشروعة بالنسبة لجيل كامل من شبابنا الذي وقف يتأمل حصاده بعد عشر سنوات من حرب خاضها بلا أسلحة سوى حنجرته وعدسة الموبايل وصدره العاري، بوجه أعتى قوى متوحشة جاءت من كلّ حدب وصوب لتستأصل حنجرته وتحطّم " عدسة الحقيقة" التي يحملها بيده ويجازف بحياته كي يبثّ للعالم ماكان يجري على الأرض. لقد كان عملاً بطولياً فاق كلّ تصور.
ولكن مادورنا نحن جيل الآباء؟ والذي أسميته " جيل التحولات الكبرى". هذا الجيل الذي تعلّم أن ينسج سجادة خلاصه ببطء شديد، وبخيوط من صبر وجلد ومثابرة، يلفّها الصمت الذي كان يبدو في ظاهره خنوعاً واستسلامًا.
نحن الجيل الذي وجد نفسه ـ منذ لحظة الولادةـ في حضن دولة البعث ولا صوت يعلو على صوت المعركة، هي الحرب إذن على طول المدى فهناك عدو متربّص يريد إسقاط النظام، وماقيمة الأرض إذا ما سقط النظام !! هكذا كان الخطاب الديماغوجي الذي على أساسه نمت فروع المخابرات كما الفطر في أرجاء الوطن، وكنّا نحن من سيملأ تلك الأقبية الرطبة دائمة العتمة تكاد تنافس برودتها تسلّل الموت من الأطراف ببطء حتى ينطفأ القلب.
نحن من عاش هزائم البعث المتلاحقة في حروبه مع الكيان الإسرائيلي والتي تحوّلت إلى انتصارات في أدبيات حزب البعث جعلت من حافظ الأسد بطلاً قومياً، يحقّ له أن يسحق الشعب في سبيل معركته الكبرى. ولكن مع من؟. كنّا نعلم أننا نحن المقصودون وليس الكيان الصهيوني، ولهذا انكببنا على سجادتنا نحيكها بصمت.
كنّا في تفاصيل حياتنا اليومية نحضّر ليوم الخلاص من خلال أبنائنا، بعكس ما تربينا عليه من أدب وانصياع لكلّ ما كان يتعلّق بنا، فلم نكن نحن من يختار لباسه أو حقيبته المدرسية ولا حتى " الطبخة" التي ستعدها أمنا ليوم غد، كنا نتحاشى أن يرانا الأستاذ ونحن نلعب في الحارة، ونحلم بالكوابيس إذا ما ضبطنا المدير وهو يعبر الشارع.
مافعلناه لأبنائنا أن جعلنا منهم جيلاً يفرض رغباته في كل التفاصيل، من خلال تلبيتها منذ أن تعلموا السير على اثنتين، فبات الطفل هو من يختار لعبته ومن ثم لباسه وحقيبته المدرسية وكل ما يتعلّق بها حتى لون وشكل قلم الرصاص، ويتصدّر طاولة الطعام قبل الجميع بما فيهم الأب، ذلك الأب الذي كانت صورته لاتهتز وهو يجلس لوحده على الطعام بينما الجميع ينتظر سماع صوته وهو ينادي عليهم للإنضمام.
لقد استطعنا أن نخلق في كلّ أسرة " تنسيقية صامتة" أشبه بالخلايا النائمة تأخذ جرعة صغيرة من التمرّد على التقاليد بشكل يومي، حتى بات التمرّد جزءاً من شخصيتهم الذي أخذ شكلاً ظاهرياً خارج المنزل، جعل الجيل الأكبر منّا يكيل علينا التهم بأننا آباء فاشلون أنجبنا جيلاً من المستهترين وأننا لم نحسن تربيتهم وأن مصيرهم هو الفشل والتسكع في الطرقات أويقضون نهارهم في المقاهي، ولكن ما من أحد كان يتوقّع أن ذلك التمرّد المنزلي الذي أسموه " دلالاً زائداً" سيتحول إلى مارد يقف في وجه الطاغية ويخرج تمرّده دفعة واحدة ليحطّم حاجز الخوف الذي صرف حافظ الأسد جلّ وقته وهو يبنيه حتى مات وهو مطمئن لديمومة مزرعته لوريثه الذي باركت له مندوبة النظام العالمي (مادلين أولبرايت) وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت آنذاك حين جاءت لحضور جنازة الأسد الأب سنة 2000.
ياسر الحسيني
كاتب وإعلامي سوري