في وداع الإنسانية



 

إنّه اليوم الأخير، ساعات معدودة لا غير هي كل ما تبقى لك من حصةٍ في العيش على هذه الأرض، لا ماء، لا زاد، لا دواء ولا أمل. إنهم الطغاة، خفافيش الليل، لصوص الطمأنينة والدّم والأعمار، لقد سرقوا منامتك ودمّروا البيت، أحرقوا الغابات وجففوا الينابيع، لقيمةٌ من الزقوم يغصّ بها الحلق وبضعة ليترات من الأوكسجين تختزنها رئتاك المخرشتان بحامض حقدهم والمسوّدتان بسخّام كراهيتهم، تلكما زوّادتك قبل أن تغيب شمس وجودك إلى الأبد.  

أحدٌ لن يكترث لرحيلك المتعجّل، لن يفتقدك أو يشعر بغيابك، أنتِ، ومنذ زمن بعيد، لم تعودي موجودة في عالمهم البائس، لقد طردوك مراراً من عقولهم الضالّة وأغلقوا دونك قلوبهم المظلمة وضمائرهم المتيبسة، أبعدوك عن كهوفهم القصيّة، لم يسمعوا نداءات قلبك المكلوم وصراخ جوارحك المستنفرة، لم يشعروا بقرع يديك المتشققتين الداميتين على طبولهم الجوفاء، ولم ينتبهوا لنقر أصابعك على صفيح أدمغتهم، ولا لإيقاع قدميك الراقصتين في معابدهم الباردة المتحجّرة.

هل حقاً كان الطغاة أطفالاً، ومن أين أتوا، كيف كبروا وتحوّلوا، من ألقى بذرة الرجس في دمهم وبدّد غيم براءتهم، من سمّد شوك الطغيان في مخيلتهم وسقاها رجيع ذلّه وعبوديّته كي تنمو أنواتهم المريضة وتكبر وتتضخم، وكيف لفيض الجمال والعذوبة والحبّ ألاّ يعرف درباً إلى صدورهم الضيقة ويضيئ ذواتهم المعتمة؟؟؟!! تساؤلات كثيراً ما راودتكِ وقد امتزجت بالدهشة والحنق، وهي وإن بدت أقرب للسذاجة والحمق لكنّها أسئلة تحمل في طيّاتها إجاباتها.

نعم كانوا أطفالاً لكنّهم مذ كبروا وتورّمت أوهامهم لم يعودوا يشبهونك في شيء، كأنهم أبناء العقربة والعنكبوت لم يولدوا من صلبك أو يحملوا ذات شمسٍ اسمك، كأنما هم لقطاء أرضعتهم أفاعي الشرّ ونمَوا في حمأة الخطيئة، كما لو أنك غدوت الوهم حين يتوارى أمام جحافل حقيقتهم المفجعة، كأنك الغريبة تعود إلى دارتها الأولى إذ لم يحتمل كبرياؤها المقام في حظائر نفوسهم العطنة.  

سويعات قليلة تفصل ما بينك وبين الغروب الأبديّ، لن تجدي ما تفعلينه فيما تبقى من وقت، نظرة واحدة تلقينها على الأشلاء والخراب والفوضى ربما تكفي لتمنحك القدرة على الاسترخاء، ستقولين: لقد كان الموت قراراً حكيماً فالهجرة بعيداً عن هذا الجحيم هو باب الخلاص، بل هو الفوز الممكن والوحيد في حربٍ لن تقنع باستسلام الضحيّة، ستمتدّ كي تفتك بالجسد وتنهش الروح. لا شيء يستحقّ القيام به قبل الأفول، لا حقائب تنشغلين في ترتيبها، لا مراسم للوداع ولا انتظار في محطة المغادرين، لا أحد سيحمل النعش وليس من مشيّعين، وليس ثمّة مكان تطوف في أرجائه جثتك المتمرّدة. 

وحيدة ستكون روحك لحظة الإسراء إلى السماء. أشياؤك الحميمة كلها ستغادر معها، ألبوم الصور، وشاحك والعطر الأنثويّ، أقراطك العاجية، قلادتك المذهّبة، مشبك شعرك الفضيّ، ملابسك الأنيقة والخفّ المشغول من الصندل والحرير، هي بعض من كينونتك المهاجرة وستكون بانتظارك. 

هناك في الفضاء الرحب، في مجرّة مجهولة الاسم والمكان وفي كوكب لا حاكم فيه سواك ولا سلطة عليه لغيرك، ستستعيدين أيتها الإنسانيّة المكانة والاعتبار وبهاء الحضور، سيمنحك أبناؤك الطيّبون بركاتهم ويقلدونك التاج والصولجان.

 

علي محمد شريف

رئيس القسم الثقافي

 

Whatsapp