الثورة السورية والإستشراق



 

حين كتب المفكر الفلسطيني أميركي الجنسية د.إدوارد سعيد كتابه الشهير ( الاستشراق) سنة 1978 ، أثار جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية والأكاديمية في الغرب، حيث تضمن في طياته تعرية الغرب الاستعماري ونزعته التسلّطية وفضح نظرته إلى الشرق وكيف أصبح "الاستشراق" مذهباً فكرياً سائداً في عموم الغرب وخاصة في الولايات المتحدة التي هاجر إليها ( ادوارد سعيد) ليدرس هناك ويعيش فيها ردحاً طويلاً من الزمن متنقلاً بين جامعاتها الشهيرة ( هارفارد ـ ييل ) محاضراً كأستاذ في الأدب المقارن، وهو الفلسطيني المسيحي ابن القدس، الذي أزعجته كثيراً تلك الصورة النمطية التي تشكلت وخلقت انطباعاً راسخاً في الوعي الغربي "سيئاً "عن الشرق ونظرة مليئة بالتعصب ضد العرب والاسلام.

كما اتهم في كتابه المستشرقين الذين اعتمدوا على دراسات ومفاهيم غير علمية عن الشرق، كانت مرتبطة بالسلطة ودوافعها السياسية لأهداف استعمارية بحتة تبحث عن تأييد مجتمعي لمغامراتها القادمة، فكانت الدراسات هي المغذي الرئيسي لمكنة الإعلام الرهيبة وفي المدارس بدءاً بدور الحضانة ووصولاً إلى الجامعات لزرع تلك الصورة النمطية عن العرب والاسلام في العقل الغربي، وحتى في الكنيسة في موعظة أيام الآحاد، لم يتركوا ثغرة واحدة لتكريس تلك الصورة فيما يعرف في علم الاجتماع بالـ " هيمنة الدماغية" فجاءت الصورة على النحو التالي ـ كما يقول د.سعيد:

" العربي ذلك الملثّم الذي يعيش في الصحراء، يسير على الرمال راكباً الجمل، ويضع في خصره خنجره المقوّس، هو قاطع طريق يحب المال والنساء، ذو أنف معقوف، خؤون، قاتل ".

تلك الصورة النمطية جعلت من قضايانا المحقّة في مهب الريح، وخاصة القضية الفلسطينية التي كان ادوارد سعيد مدافعاً شرساً عنها جعلته يصطدم مع ياسر عرفات فيما يتعلق باتفاقيات أوسلو التي اعتبرها صفقة خاسرة للشعب الفلسطيني، دفعته للاستقالة من المجلس الوطني الفلسطيني الذي كان عضواً فيه.

وهاهي مرة أخرى تقفز الصورة النمطية كأشد الأسلحة فتكاً بالقضية السورية، من خلال المحاولات الحثيثة لإبراز الجموع الثائرة وكأنّها تجسيد لتلك الصورة النمطية، فكانت "داعش" هي المنتج الذي ابتكرته أجهزة الاستخبارات العالمية معتمدة على الصورة المهيمنة في ذاكرة الغرب، وعلى القدرات الضخمة لهوليوود في تعزيزها، عبر فيديوهات ذات مستوى متقدم في التصوير والاخراج كما حصل في فيديو الطيار الأردني ( الكساسبة) الذي بدا وكأنه مقتطع من أحد الأفلام التي تنتجها استوديوهات هوليوود.

في الأشهر الأخيرة من عام 2012 وحين كانت معظم المناطق قد خرجت عن سيطرة النظام وبات أمر سقوطه حتمياً، كان لابدّ من استحضار تلك الصورة النمطية كي يتراجع التأييد العالمي لثورات الربيع العربي وخاصة الثورة السورية، تمهيداً للإنقضاض عليها وسحقها بكلّ الأسلحة بما فيها المحرّمة دولياً، وحصارها بالجوع والبرد في المخيمات وإغراقها بالفساد من خلال قيادات تسيّدت المشهد السياسي والعسكري ذات ماض غير مطمئن البتة من حيث النزاهة والولاء، فتوالت فضائح الفساد المالي لتظهر للعلن، والفساد السياسي الذي وصل لمستوى الخيانة والتآمر على الثورة وتضييع مكتسباتها الواحدة تلو الأخرى فجرى تسليم المناطق المحرّرة تباعاً وترحيل من تبقى عبر قوافل بما تعرف ( الباصات الخضر)، ثم توالت التنازلات عبر لقاءات "سوتشي" و"أستانا" حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم حيث لم يعد للثورة السورية سوى الوجه الإغاثي، وكأنما تحولت قضيتنا إلى قضية شعب تعرض لكارثة طبيعية ونسي العالم من قطّع أوصال "زينب" وملأ جسد "حمزة" بالثقوب وخنق أطفال الغوطة بالسارين، وعشرات المجازر وآلاف الغارات بالبراميل حصيلتها أكثر من مليون شهيد، كما العالم يتناسى اليوم وحتى الإئتلاف أكثر من ربع مليون معتقلة ومعتقل لدى نظام الأسد وكأنّما لم يكن ذات يوم ملفّهم " فوق تفاوضي"، لتعود تلك الصورة النمطية التي ذكرها د.ادوارد سعيد عن العربي ذلك " الخؤون" الذي سرعان ما يتنازل عن قضيته ويبيعها بأبخس الأثمان، ليتجرأ أحد قادة حماس ويصف المجرم قاسم سليماني بشهيد القدس، ويخرج بعده من قادة فتح المدعو جبريل الرجوب ليصرّح بكل وقاحة من دمشق بأن وجود سورية خارج الجامعة العربية هو عار على العرب !.

إنّه التكريس على أرض الواقع لتلك الصورة النمطية التي دأب الغرب على تعزيزها وأنفق المليارات لأجلها، ولكن رسالة الشعب السوري وثورته العظيمة مازالت سامية وتتنقل بين عواصم الغرب عبر رسلها من اللاجئين الذين قدّموا أنصع صورة عن الشرق وبرزوا في كلّ الميادين ولم يعد بالإمكان إلّا القبول بالصورة الجديدة التي تحتاج لمزيد من الوقت لتصبح هي المعتمدة رغم أنف الصهيونية.

 

ياسر الحسيني

كاتب وإعلامي سوري

 

Whatsapp