في محاولة ورغبة فلسطينية لتطبيع العلاقات مع طاغية سورية، وفتح صفحة جديدة في العلاقات بين الجانبين، زار دمشق وفد من (حركة فتح) برئاسة جبريل الرجوب أمين سر الحركة، في الأيام الماضية، تزامنًا مع ذكرى انطلاقة الحركة (01_ 01_ 1965) لتكون مدخلاً لإعادة تطبيع العلاقات، والتي ينوي الرئيس عباس نفسه زيارتها، ولم يجد هؤلاء مكانًا أنسب لإحياء هذه المناسبة التاريخية المجيدة إلا أطلال مخيم اليرموك الذي دمره نظام الأسد عن بكرة أبيه وسواه أرضًا، وشرد أهله، واعتقل الآلاف منهم، ومايزال، بكل رمزيته وقيمته الوجدانية والنضالية في حياة السوريين والفلسطنيين معًا.
الزيارة التي تأتي في سياق تدافع عربي رسمي لإعادة العلاقات مع نظام الطغيان الكوني، تم التعبير عنه بإعادة بعض الدول فتح سفاراتها في دمشق، المغلقة تطبيقًا لقرار مؤتمر وزراء الخارجية العرب الطارئ في القاهرة في 16_ تشرين ثاني/ نوفمبر 2011 مع حزمة من العقوبات والاجراءات في حينها، وسط دعوات ومساعي لإعادته إلى حضن الجامعة العربية ودعوته لحضور القمة المقبلة، في الجزائر، المقررة في الربيع المقبل، في شهر آذار/ مارس كما أعلن عن ذلك الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون.
خطوة السلطة الفلسطينية المستهجنة تعكس حقيقة التبدلات التي لحقت بها، وبمنظمة التحرير الفلسطينية قبلها، والتي لم يبق لها من تاريخيتها ونضاليتها وكل ما تمثله من نموذج للتضحية والفداء والدفاع عن قضية حرية الأرض والإنسان إلا اسمها، ولم يبق في وجدان العرب وكل مؤيدي القضية الفلسطينية إلا القليل من هذا الإرث المجيد، والتاريخ الكفاحي المشرف، الذي تبدده الآن سلطة أوسلو بإعادة علاقاتها مع طاغية ومجرم دولي، واقفة على أطلال (اليرموك) في أكبر طعنة للشعب الفلسطيني، أولًا، ولتاريخ طويل جدًا من تضحيات الشعب الفلسطيني، ليس في مواجهة العدو الصهيوني بل في مواجهة نظام آل الأسد( الأب والابن).
سبقت هذه الزيارة تصريحات لقادة سلطة (دولة) غزة تصب في الاتجاه نفسه من دعم لمحور الأسد وحليفه الإيراني، مما يشير ويدل على أن هذه الفصائل على اختلاف تلاوينها انقلبت على تاريخها ونضالها، ووضعت نفسها في مواقع مشبوهة لا تمت بصلة إطلاقًا لمفاهيم حركات التحرر العالمية، والتي كانت جزءً رئيسًا منها، والتي استشهد تحت راياتها الملايين من جنسيات مختلفة، وفي مختلف بقاع العالم، وتمثل اليوم إحدى وجوهها الناصعة حركة النضال الوطني السوري، وهو ما لاتعيه هذه الفصائل ولا تفهمه، ولا تدرك معه مدى الارتباط والتداخل بين القضيتين، السورية والفلسطينية.
يشكل هذا الإنحراف الفلسطيني الرسمي، ولا نقصد الشعبي بالطبع، في جانب منه تحول الثورة الفلسطينية إلى سلطة، مجرد سلطة، تماثل وتشابه أقرانها في النظام الرسمي العربي، الذي ارتاب من الربيع العربي وسايرته بعض دوله خشية وخوفاً، وتنفست الصعداء اليوم مع إخفاقاته ومآزقه التي يمر فيها.
تتزامن هذه المواقف العربية مع هرولة معظم دول النظام الرسمي العربي باتجاه التطبيع مع الكيان الصهيوني، وللمفارقة أنها ذات الدول تقريبًا التي تطبع هنا مع نظام دمشق هي ذاتها التي تطبع هناك مع "إسرائيل"، استكمالًا لمأساة وبؤس حالتنا العربية، في حالة بيع علني لكل القيم والمفاهيم التي تربت عليها أجيال من شعبنا السوري والعربي، وحالة ارتهان للخارج غير مسبوقة.
السلوك الفلسطيني الرسمي اليوم ماهو إلا تعبيرًا عن أزمة السلطة تجاه شعبها وقضيتها، أولًا، لجهة حالة الخلافات والانقسامات المستحكمة بين الفصائل والأطراف المختلفة، وغياب أي سند قانوني أو نضالي لكل الشرعيات المزعومة، في غزة ورام الله، ومن يقف خارجهما من فصائل دمشق التي كانت حلب والمدن السورية الأخرى أقرب إليهم من القدس والأقصى، والحالة هذه تعكس تناقضًا بين راهنها وإرثها الذي تستند إليه ووصلت من خلاله لتكون سلطات أمر واقع منحه إليها الاحتلال الصهيوني.
بغياب القائد الشهيد ياسر عرفات فقدت القضية الفلسطينية كثيرًا من رمزيتها ورشدها، إضافة لحنكتها وفهمها السياسي الحاذق، ولا أدل على ذلك من علاقاتها اليوم مع نظام دمشق، الذي عمل تاريخيًا على الاستثمار في القضية الفلسطينية ونازع منظمة التحرير على قرارها وخاض معها معارك حادة لأجل الاستحواذ على قرارها، ماجعل الراحل عرفات المعارض السوري الأول على حد وصف الراحل محمد خليفة.
لن يحرر هؤلاء فلسطين وهم بالأصل فقدوا تمثيل أنبل قضايا الشعوب وحركات التحرر، وبعلاقاتهم الحميمة مع الاحتلال والطغاة والمشاريع المشبوهة في المنطقة تحولوا الى أدوات رخيصة. الفعل الشائن الذي أقدم عليه هؤلاء يؤكد من جديد عمق روابط القضيتين السورية والفلسطينية وتكاملهما.
.