أولوية فصل القداسة عن السياسة


 

 

النظرة اللاتاريخية للواقع والوقائع والأديان وللتاريخ ذاته هو سقوط مريع في بحر الضياع يلتقي في مضمونه وجوهره مع الذين يسقطون في حبائل جعل الدين فوق التاريخ، وإن وقفة تاريخية مع الإسلام تؤدي إلى أنه لم يفاجئ أبداً شعوب الشرق، بل إنه أنار بإشعاعه من حولها ما هو متغاير ومتميز، ولم يكن هناك حاجة لسيفٍ ولا لاضطهاد من أجل أن تعتنق هذه الشعوب الدين الجديد؛ فلقد دفعهم إلى الإسلام ميلهم للإيمان المتوارث عن الأجداد، وإن المسلمين لم يكونوا في حاجة لاحتلال الشرق والمتوسط عسكرياً، فقد كانوا في وطنهم منذ آماد قديمة.  

المؤكد أن الإسلام الذي جمع من قبل في نفسه منابع التوحيد الأولى، ممثلاً أيضاً بجُماع ما فيه من ثقافات النيل وفلسطين وبلاد ما بين النهرين فضلاً عن بلاد فارس، وقد جعل من اللغة العربية، لغة التعبير الراقية والعالية التي لا مثيل لها، لغةً إنسانية قوية في دوامها واستمرارها، كرسها القرآن الكريم «جوهر العقيدة»، وهو الكتاب الأزلي «الخالد»، غير القابل للتغيير شكلاً ومضموناً، وحداً بين «النسبي والمطلق»؛ إن مثل هذه النظرة التاريخية للإسلام تجعل من حضوره التاريخي ضرورة للتاريخ الكوني والإنساني، بالإضافة لكونه يحمل في ماهيته بعداً أساسياً في مسار تشكل الهوية العربية وحماية ثقافتها بالرغم من كل الأعاصير التي هبت وتهب عليها.

لعل هذه الرؤية هي التي تصون الإسلام من الانحراف في النظرِ إليه من قبل كل الذين تواطؤوا عليه سواءٌ أكان من منطلق تجميده في نصوص غير قابلة للتأويل التاريخي والاجتهاد- من المتعصبين فيه- أو مهاجمة دوره التاريخي من قبل أعدائه المتربصين من مواقع عصبوية- غير تاريخية- ضده، في سبيل السعي للهيمنة على المنطقة.

 لكن الميليشيات الثقافية الطائفية تستغل الدين لتزرع «اليوتوبيا» عن طريق الشارع والمدرسة ووسائل الإعلام وهكذا تؤبد- في غفلة من العقل النقدي- هيمنة الإسلام السياسي، زاعمةً الوصول للحداثة في قاربٍ ديني؛  فلم تعرف الحداثة نسخة أشدُ حزناً ولا أكثرَ مسخاً مما عرفته في بلادنا العربية والإسلامية؛ فهل يمكن أن يتمدن الجسد ويبقى العقل في معزل عن التمدن والحضارة؟ وكيف يمكن أن يعيش الإنسان في عصرين متباعدين في آن معاً؟ وما هي النتائج المترتبة عن هذا التمزق الحاصل في الذات العربية التي تعيش مادياً في القرن 21 وذهنياً في القرون الخوالي؟

يكفي وصول أحدنا إلى بلد من البلدان العربية أو الإسلامية ليقف على الفوضى المفهومية التي تعتري البشر وتغرقهم في «اغترابٍ» شديد، إنها فوضى ذهنية تنعكس على الواقع فترى الناس هائمين على وجوههم كأنهم لم يجدوا رأس الخيط، وسبب ذلك بالدرجة الأولى أزمة المثقفين، إذ تعاني شعوب العالم العربي والإسلامي من مرض عضال هو «نُخبها» السياسية عموماً والثقافية على وجه الخصوص، وتمثل غالب النخب المتأسلمة- سنية وشيعية- هذا النمط، إنها تنتخب بعض آيات من القرآن ومن الأحاديث النبوية «لِتؤمثِل» عهد الخلفاء الراشدين ولِتُمهّد بوعيٍ وأحياناً دون وعي الطريقَ لدولةٍ إسلامية مزعومة أو لذلك الشيء الذي يسمّى كذلك. 

إن هيمنة الإسلام السياسي أو ما يسمى بالأصولية لتلكم الميليشيا الثقافية قطعت الطريق أمام كل الأصوات الداعية للتخلص من قبضة الدين الأرضي وفهمه الانتهازي المتحالف مع أنظمة الطغيان العربية، ما أدى لتفخيخ الدين وثقافة التعليب، فراحت هذه الميليشيا وانطلاقاً من حمّى البحث عن مقابِلات لمنتجات الحداثة، يُسقطون المفاهيم القديمة على الواقع الجديد المتجدد والمفاهيم الحديثة على الوقائع العتيقة، بل ساهموا في تحويل كثير من الأفكار المسبقة لبديهيات، إنهم حرّفوا وقاموا بأسْلمة كل شيء بغية إشباع بعضُ رغبات مكبوتة في محاولة للتمويه عن الإفلاس البيّن لذواتهم.

لقد جعلوا الأموات يحكمون الأحياء- كما هو حال النظم السياسية- إذ في كل بقاع الأرض تمرّ الأجوبة مرّ الكرام وتبقى الأسئلة قائمة، أمّا هنا فيحدث العكس، يُحتفظ بالجواب وتُطرد جميع الأسئلة!، فلم يعد كافياً اليوم نحتُ أسئلة جديدة، لقد بات ضرورياً تهديم جل الأجوبة القديمة.

إن نخب الميليشيا الإسلاموية تعاني من عسر نظري مزمن يدفعها لتوهّم الوصول إلى الحداثة على قوارب محطمة، فكأن الدين يتكلم حينما تتكلم هذه الميليشيا!، فهي لا تملك الشجاعة الأدبية ولا تشعر بواجب إعادة النظر في الموروث الديني ذاته وهو «شرط ضروري للمساهمة في تغيير الذهنيات» ودفعها نحو الأفضل، نحو «الفصل بين القداسة والسياسة فضلاً عن الفصل بين الحياة وما بعد الحياة». 

وهكذا نرى كيف تحول مثقفو الميليشيا إلى «سحرة وعرافين وكهنة مجندين لتبرير الخطايا»، فهم يجهدون أنفسهم في محاولة «عقلنة اللامعقول» مرتكبين ممارسة مدح أعمى لتراث الدين الإسلامي الأرضي، وبذلك الانبطاح الفكري يتحوّلون- بوعي أو دون وعي- إلى سند ثقافي وإعلامي للظلامية، بحيث يُغمضون أعينهم حتى لا يروا الانحطاط الحاصل، فيتخذ بعضهم من الثرثرة الأدبية ملجأً له، ويغرق آخرون في شبه بحوث جامعية تدخل في إطار المعرفة الزائدة، وينتقد كثير منهم الحداثة- وهي فعل نقدي أساساً- لكنهم يغضّون الطرف عن الخرافات والأساطير التي تعشش في مجتمعاتهم وتراثهم الديني على وجه الخصوص.

فلا مهمة مستعجلة للنهوض بالفكر العربي الإسلامي غير طرقات الفلسفة، فالقلم لم يكن سوى امتداد للمسبحة إثر عهود الانحطاط، إذ لم تعد ضربات المطرقة جدية في العقل المُكوَّن وهو الأمر الذي عطّل حركة الفكر في الوطن العربي وجعله لا يجرؤ على تعقل الواقع، وهو ما مدد نزهة العرب في التاريخ، فما نفع امرئٍ أمضى حياته كلها يتفلسف دون أن يزعج أحداً!؟

والمثقف العربي المسلم ما زال يتخبط في أزمة أخلاقية خانقة، وينبغي على هذا المخلوق إن رغب أن يتحول من حالة الهيولى الفكرية إلى مثقف بالفعل من مواجهة: استبداد السلطة وجهل الجماهير؛ وهذا يتم بالكف عن بلورة جشع الأولى وانتهازيتها وتحويل أحكام الثانية المسبقة إلى رأي عام أو ثقافة، فكثيراً ما تراجعت قوى الحرية والتقدم أمام قوى التخلف، وهو بعضٌ مما جعل مجتمعاتنا العربية تدور حول نفسها وتبقى عاجزة عن تكوين نخب حقيقية قادرة على إحداث قطيعة معرفية كفيلة بدفع الإنسان العربي للتصالح مع عصره.        

                                                       

عبد الباسط حمودة

كاتب سوري

 

Whatsapp