الشباب اليتيم


 

توصف المجتمعات العربيّة بالمجتمعات الشابّة أو ربّما الفتيّة، فبحسب النسخة العربية من التقرير الإقليمي حول حالة السكان للعام 2011 فإنّ نسبة الشباب ممن هم دون الخامسة والعشرين تشكل سبعين في المائة من إجمالي عدد السكان البالغ أكثر من ثلاثمائة وسبعة وستين مليوناً. 

تبدو هذه الأرقام، بما ينبغي أن تحمله من مؤشرات إيجابية وبما تنطوي عليه من فرضيات نظريّة، صحيّةً ومبشّرة لأيّ مجتمعٍ يسعى إلى النهوض والنموّ والازدهار، فما الذي يمكن أن تنتظره من مجتمع شابّ، كحال المجتمع السوريّ، يزخر بالقوة والطاقة ويمتلك أسباب العلم والمعرفة وأدواتهما، ويطمح لتسخير قواه وثرواته الوفيرة وإمكانيّاته اللامحدودة في البناء والتنمية...؟؟

المنطق المجرّد عن سياقات الواقع المظلم وتعقيداته سيقول بالتأكيد: إنّ مستقبلاً عظيماً ينتظر هذا المجتمع، وأن الشمس ستشرق في قلب أبنائه وسينتشر نورها في السفوح والذرى، فقد أخذ الشباب المزوّد بقيم العلم والمعرفة دورهم إلى جانب آبائهم المؤسسين، أصحاب التاريخ والمجد والخبرة والحكمة، في قيادة دولتهم الحديثة المحصّنة، وإدارة شؤون مؤسساتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية المختلفة.

لكنّ الواقع الكارثيّ المفجع سيدحض هذه الصورة الورديّة المتخيّلة لوطن مُتخيّلٍ، جلّ مواطنيه في طور الشباب المتخيّل، وسينفي إمكانيّة تخيّل وجوده أيضاً، فالمجتمعات العربيّة، والسوريّ فيها ومنها، ليست في الحقيقة أكثر من مجاميع عدديّة مذرّرة أشبه برمال صحراءِ بلدانها، يمتدّ ويزحف التصحّر فيها لا ليقضم الباقي من تربتها وأخضرها الكامد فحسب، بل وما تبقى من عقول أبنائها وأرواحهم التائهة، كذلك فإنّ دولها ومدنها "الملحيّة" آخذة في الذوبان والاضمحلال بفعل الماء الآسن المتسرّب من مطابخ فسادهم وأوكار دسائسهم القذرة على شعوبهم، ناهيك عن الزلازل والفيضانات والعواصف، ما ظهر منها وما سيظهر ليجتاح جذورها المهترئة النتنة عمّا قريب.

لقد عملت أنظمة الطغيان على إجهاض أيّ مشروع نهضوي فلجأت إلى قمع القوى والأحزاب والتيارات الفكرية والسياسية المعارضة، وهلهلتها ومن ثمّ تصفيتها، وعلى تخريب المؤسسات التربوية والتعليمية، واحتكار منابر الثقافة والإعلام وشراء الذمم الرخوة، وترهيب وتغييب النخب الحقيقية المؤثرة بغية تزييف الوعي وتشويه التاريخ ورموزه، ونسف القيم والمبادئ وإفراغ المفاهيم الإنسانية والوطنية من مضامينها السامية، وترسيخ شعارات ومقولات شعبوية تنبو عن الطبيعة الخيّرة، وعلى السلب والنهب وإفقار المجتمع، وتكريس الرداءة وتعزيز بنى التخلف والأميّة والجهل، وعمدت إلى هدم المؤسسات الضامنة لحقوق الفرد والمجتمع، وإلى زرع ثقافات الخوف وتسوّل الحقوق واستجداء المغتصب، وإلى العبث والمتاجرة بالقضايا الكبرى للإنسان في العدالة والحرية والكرامة والأمن.

لقد آلت البلاد إلى أن تكون ميتماً رثّاً، وبات الشباب المضيّع الغريب يتيماً محروماً ومظلوماً في دارةٍ خَربةٍ يسمّونها الوطن. 

في أتون هذه الكيانات السرطانية القابضة على عنق السلطات والأوطان، وفي ظلّ بلادٍ حوّلها الطغاة إلى ما يشبه المزارع والمداجن، تتوالى وتهرم أجيال الشباب بلا تاريخِ ولا مرجعيّات، لا تعرف سوى الصنم الأحد أباً ورمزاً ومفكراً وبطلاً وأوّلاً في كلّ الميادين، فلا تجد فضاءاً يبلور أحلامها، ولا ناظماً يستوعب طاقاتها الثرّة أو يوجه نشاطاتها الخلّاقة المبدعة. 

في المجتمعات العربية تستأصل مكامن الرفض والثورة في عقول الشباب، وتدجّن بكافة الوسائل والأدوات القهريّة إلى الحدّ الذي يفقدون فيه تعلقهم بالأرض، وبأيّ شعور بالهويّة الوطنيّة والانتماء، فإذا ما داهم بعضهم الوعي أو عضته أنياب الحاجة والجوع لن يجد بدّاً من الهروب من هذا السجن، ولن يربطه بالميتم الذي ولد وعاش فيه أيّ رابط سوى قيد العجز عن المغادرة، أو الحصول على تأشيرة دخول لدولة ما تحترم إنسانه وتمنحه الأمن والسلام والطمأنينة. 

 

علي محمد شريف

رئيس القسم الثقافي

 

 

Whatsapp