ولنا في الثورة حياة



 

الحديث عن الثورة السورية وعظمتها وجلال مطالبها ليس ترفاً تقتضيه ذكراها السنوية، كما أنّه ليس من قبيل العبث استعراض مسيرتها السيزيفيّة وما تحقق فيها من إنجازات وإخفاقات، ومن انتصارات وانتكاسات، كذلك البحث في المبررات التي أوجبت انطلاقتها ومنحتها مطلق القدسية والمشروعية بالرغم من عثراتها وفداحة ما تكبّده حاملوا لوائها، ثمّ إنّ مراجعة أسباب تقهقرها والتعقيدات التي قادت إلى مآلاتها الكارثيّة المؤلمة بالتأكيد لن تهدف إلى نكئ الجراح وتوزيع التهم والتنصّل من المسؤوليات التي يتحملها الجميع جناة كانوا أم ضحايا. 

لم تكن ثورتنا سوى سُورةٍ للحبّ ونخلةٍ تسّاقط منها ورودُ الألفة والمحبّة ورطبُ الكلام، بدأناها كما أردناها غيمةً بيضاء وفضاءً لانهمار العذوبة والجمال بكلّ ألوانه القزحيّة، قرعنا بابها برهبة العاشق ودلفنا إلى محرابها بخشوع العابد، كانت قبلتنا وسبيلنا إلى فردوسنا المفقود حيث يهدل في زرقة سماواته اليمام، وترفرف فوق أجماته الخضراء أجنحة العدل والأمن والسلام، لكنّ خفافيش الظلام والذئاب الشاردة انقادت لفحيح غرائزها وشهوتها المتوحشة للسلطة والدم، واستجابت لنباح الطاغية المسعور وأسياده ممن أراد للثورة أن تكون بوابة السوريين للجحيم، فأنشبوا، جميعهم، الأظلاف والأنياب وأدوات التدمير والموت، وحفروا الأنفاق والمتاهات كيما تعود سوريّا إلى ما قبل التاريخ وتسقط في كهف لا قرار له ولا سبيل للخروج من ظلمته.

 كانت الثورة الطريق الى وطنٍ نستعيد في ربيعه الإنسان والسكينة والسكن، فغدت خيمتنا المرمّدة بالحرائق وأمست هي الانتماء والهوّية والوطن. 

الاحتفال الحقيقي بعيد الثورة آتٍ دون أدنى شكّ وسيتجسد فرحاً ونشوة في ساحات المدن السورية وقراها الثائرة، أما أن يعيش السوري الآن وهج رغباتٍ يتهددها اليباس، ويستقطر السراب ماءً بارداً يطفئ غلّ جوارحه الظامئة إلى الحقيقة المغيّبة، فيطفو الوهم في مخيّلته الضامرة واقعاً يتفيّأ ظلاله الكاذبة ويجني ثماره المسمومة، فذاك ما لا يتطلبه مخاض عسير وطويل، قد يمتدّ لأجيال، في كنف الغيلان المتربصة بالثورة، ولا تقتضيه ولادة أوهنها الإرهاق والتعب ويكاد النزيف يقتل الوالدة والمولود.

إنّ ما تنتظره الثورة الإخلاص والصدق وأن تكون هاجس أبنائها الدائم، وسعيهم الدائب في الميادين كافةً ما يمكنهم من البقاء والمواجهة وصولاً لانتصارٍ يحمي وجودهم الإنسانيّ ويعيد إليهم حقوقهم في الوطن السامق والحياة الحرة الكريمة.

الطغيان ليس قدراً ثابتاً ومحتوماً. هو كالمحتلّ المستعمر طارئ ومؤقت، مع ذلك لا ينبغي أبداّ التغاضي عن وجوده وتجاهل ما يحدثه من آثار مدمّرة في الجسد والروح، إنه مرض خبيث تستحيل مهادنته أو التعايش معه، فإن لم يتم القضاء عليه وتجريف الأماكن المعطوبة من مخلفات وجوده سيستمرّ في التمدّد والانتشار وفي نهش الأعضاء الحيوية، وسينتقل آجلاً أو عاجلاً إلى نقيّ العظم ويفتك بالدماغ ويودي بالضحية إلى الهلاك. 

ليسوا أحياء أولئك المرضى الذين استسلموا للوباء وعقدوا الهدنة مع الطغيان، وباتت المذلة والمهانة دواء رِمَمهم الرّازحة تحت نعل الفاقة والخوف، إن هم إلاّ أحطاب مسودّة عفنة تأنف النار من عارها ويهرب من عطنها الاخضرار.  

أيّاً كان الثمن لزوال سرطان الطغيان فهو مقبولٌ ومستحقّ، ومهما بلغت جسامة التضحيات وفداحة الخسارات وهول الألم فإنّ نبل الغايات وسموّ الأهداف والحلم المضمّخ بعبير الحرية سيجعلها أقلّ كلفةً من العبوديّة والخنوع.

لا سبيل إلى قهر الموت سوى تحدّي سلطانه ومواجهته والاستخفاف بعنفوانه وهدر هيبته، ولعلّ أوّل مظاهر تحدّي الموت هو الانتصار للحياة والقيم. إنّ مقاومة عوامل الفناء والتغلب عليه يكمن في الاستجابة لشرط الوجود الإنسانيّ ومعناه، وتقديم ما تستحقه قيم الحرية والحقّ من عطايا وقرابين. 

في البحث عن معنى الحياة والقبض على جذوتها تبرز أهمّية الإيمان والتضحية والبذل دون اكتراثٍ بالألم ولا انتظاراً لمقابل، هنا وهنا فقط يتجلّى ويتجسّد الحبّ.

 

علي محمد شريف

رئيس القسم الثقافي


 

Whatsapp