الصوم حرّية


 

ساعات قليلة ويبزغ في سماء العالم هلال رمضان المبارك ويبدأ المسلمون في بقاع الأرض صوماً هو ركن من أركان دينهم وفريضة عليهم أجمعين، لا فرق في التكليف والإثابة بين ذكورهم وإناثهم، غنيّهم وفقيرهم، خاصّتهم وعامتهم، إلاّ لمن حال ما بينه وبين الصوم مانع شرعيّ أو عذر مقبول أو رخصة مشروطة.

لا شكّ أن في الصوم معاناة تتطلب الإرادة والجلَد، والصبر على الحرمان من رغد العيش ومباهج الحياة الدنيا، ويصحبها كبح وزجر للحواس ولأعضاء الجسد، فالصوم قرار حرّ يمليه العقل على المسلم بترك الطعام والشراب والامتناع عن تلبية شهوات البدن، إنفاذاً لقضاء الربّ ومشيئته، وابتغاء مرضاته، وامتثالاً لأمره الموثّق المكتوب، وانتظاراً للفوز بثمرات طاعته والالتزام بعباداته. 

وإذا كان الصوم مرتبطاً بالحرية وتعبيراً عن الإرادة فذلك لأنّه يمثل انتصاراً للجانب الروحيّ من الإنسان وما يحمله من قيم وجدانية عليا في مواجهة تكوينه الصلصالي ومتطلباته المادّية والغرائزيّة، وهو ما يمثل حالة من الارتقاء والسموّ تحثّه على التفكّر والتبصّر فيما حوله من كائنات، وتشعره بضعفه الإنسانيّ وبما يكابده الظمآن والجائع والمحتاج الذي لا يجد ما يسدّ حاجته أو يلبّي نداءاته المكتظة بالحزن والألم. لقد أدرك الإنسان أهميّة الصوم والحرية والإرادة المنعقد عليها قراره بالالتزام بهذا الأمر الإلهي الذي تضمنته جميع الأديان السماوية، بل وبعض العقائد الأرضية وتعاليم الحكماء.

إنّ انتصار العقل على المادّة وتطويعها وضبط منظوماتها وسلوكيّاتها ذروة لا يمكن الوصول إليها من دون الثورة على الجسد ورغباته، ومن دون مجاهدةٍ ومكابدة، وبذلٍ يستند إلى الوعي بالوجود وموقوتيّته، وإلى الإيمان بالواجد وقدرته، وإلى المعرفة والقبض على معنى الانتماء للإنسان وكيف يصون الأمانة الموكولة إليه ويحقق الرسالة المنوطة به، ولعلّ قرار صوم شهر الصبر والالتزام بالمعاني والقيم المرتبطة به يصل بالصائم لإدراك تلك الذروة.

وكما أنّ الراحة والحبور حاصل طبيعيّ يعقب العمل وما تكبّده العامل من مشقةٍ وجهد للنجاح بأدائه وإنجازه على الوجه الأكمل، كذلك فإنّ انتصار الجانب الروحيّ في الإنسان يبعث البهجة في نفس الصائم، وهو شعور يتجدّد في كلّ يوم من أيام رمضان إلاّ أن السعادة الكبرى بتمام شهر الصوم وحلول موعد الفطر تتجسّد بكامل ألقها بالعيد وما يتخلله من مظاهر احتفالية باكتمال الإنجاز العباديّ وببدء دورة حياة طبيعية متجدّدة.

قد تكتسب الطقوس الاحتفالية بهلال رمضان وبأيّام الصوم وكذلك بعيد الفطر بعض الخصوصيّة والتمايز لدى كلّ شعب من الشعوب الإسلاميّة لارتباطها بثقافات تلك الشعوب وبيئاتها، وهي إن اختلفت ما بين ما بين بلدٍ وبلد، إلاّ أنها مظاهر عامة بين المسلمين تجمع بينها قواسم مشتركة جوهرها الغبطة والفرح، والشعور بالعدل والمساواة، والإحساس بالرضى عن حسن الالتزام والثقة بعظمة القبول.  

ليس مصدر تعاسة للإنسان صوم الجسد لوقت معلوم بإرادة حرّة منحها الخالق لعباده، بل إنّ مطلق الشقاء والبؤس هو في صوم العقل البشري، وانصرافه عن مهامه في التأمل والتفكير وفي وعي ذاته والكون والمعنى من وجوده وصولاً للحقيقة، وإلى رفض كلّ ما يشوّه طبيعة الخلق ويدنّس فطرة المخلوق العاقل المجبول على قيم الخير والجمال والمحبّة. إنّ جلّ ما تسعى إليه الوحوش البشريّة وقوى الطغيان هو الهيمنة المطلقة على إرادة الإنسان في الحرية، والانعتاق من أسر النوازع الدنيا وما يحيق بها من مخاطر الظلم والأذى، والتحرّر من الرغبات المنفلتة بالسيطرة عليها وقوننتها، وضبطها بالحدود والمعايير القيمية والأخلاقية.

الصوم لله وحده وقد خصّ ذاته الأجلّ به، إنّه صوم الأدنى امتثالاً لقرار الأعلى، وهو خيار متروك لقرار الفرد بما يجسّد إنسانيّته ويشعره بحرّيته، أمّا صيام العقل فهو خضوع الأسمى للأحطّ ما يعني العبوديّة والتخلّي عن الخصيصة التي تميّز الإنسان عن غيره من المخلوقات، وبالتالي فقدانه شرط وجوده وإنسانيّته المتمثل بالحرية.

 

علي محمد شريف

رئيس القسم الثقافي


 

Whatsapp