الثورة هدمت أسوار الميتم


 

 

لم تغيّر الحربُ المعلنة على السوريين الثائرين الرافضين لحكم النظام المافيويّ الأسديّ من واقع اليتم الذي يعيشونه بكلّ ما يكتنفه من ألم ومعاناة وبؤس، فمنذ أن فقدوا آباءهم المؤسسين للدولة السورية وغاب، لأسباب مختلفة، مَن خَلَفهم من الرجالات والقامات الوطنية عن ممارسة دوره في كافة الميادين السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، حوّلت السلطة الانقلابية المجرمة وطنهم إلى معتقل كبير ترتع في زواريبه أجهزة القمع والنهب والفساد، والتدمير الممنهج والمنظم لكلّ ما تمّ بناؤه من مؤسسات الدولة الحديثة.

نعم. يمكن لشعبٍ هو ابن التاريخ والجغرافيا الأزليين أن يغدوا يتيماً حين يفيق من صدمة الفقد فلا يجد أثراً لتاريخه الحقيقي، ويكتشف أنه أمسى غريباً في بيته المحتلّ، نكرة بلا اسم أو انتماء، ليس ثمّة مكان في أرضه لخيمة تؤوي جسده المدمّى، ولا حتى لحفرة تضمّ أشلاء جثته الباردة.

لقد نصّب الطاغية ذاته المتجبرة وصيا على السوري الميتّم، واستخدم جميع أدواته القهريّة بحقه فلم يدع وسيلة إلا واتبعها في سبيل تزييف وعيه وتطبيع عبوديّته، وسحق إرادته في الحرية والانعتاق من براثنه السامّة القاتلة، لكنّه السوريّ كان عصيّاً على الترويض والتدجين، وأثبت مناعة ضدّ فيروس الخنوع، وبراعة في التمرّد على مناهج الطغيان والاستبداد، فكانت ثورته درساً عمليّاً لفشل كل محاولات تغيير الطبيعة الإنسانية الخيّرة، واستبدالها بالقيم الدونية المتوحشة.

ما حصل في سورية أن الثورة هدمت أسوار الميتم، ونسفت أعمدة هذا المعتقل الكبير المسمّى عرين الأسد، لكن الوحوش البعيدة والقريبة، في هذه الغابة المظلمة التي آل حال العالم إليها، لم تكن لتبدّد اليتم الذي يكابد ألمه وعذاباته السوريّ المقهور، ولم تسع كل المنظمات والهيئات الأممية لمساعدته على بلوغ الحِلم وصولاً لتحقيق الحُلم، بل كانوا جميعاً عوناً للطغيان في تعميق حالة اليتم وما تستدعيه من ضياع وتشرّد وإحساس بالحاجة والفقد، وشركاء في المكر والخديعة والغدر بحلم السوريّ في التغيير، وفي بناء بلده على أسس الحرية والعدالة والمواطنة وحقوق الإنسان، فزاد تشرذم السوريين وتاهت بوصلة الكثيرين منهم، وغاب المشروع الوطنيّ التحرّري بين عجاج الاحتراب البيني والغبار السام الناجم عن الاقتتال على غنيمة السلطة وما تمنحه من الثروة والقوة.

تتداخل عناصر الوجع السوريّ المزمن وتتعدّد مسارات ملحمته التراجيدية ضمن حبكة متقنة قد تفضي نهاياتها المفتوحة إلى العديد من النتائج المتضادة وفقاً لما تستقرّ عليه رؤية مؤلفيها الكثر، لكنّ ما بات بحكم المؤكد أن الصورة الورديّة للوطن الحلم، التي خطّ ألوانها الزاهيّة روّاد الثورة السوريّة الأوائل، قد بدأت بالتآكل، وأنّ نسيجها المخضّب بالدم يخشى عليه من الاضمحلال تحت طبقات من وحل الخديعة والغدر.

ما سبق ليس مقدمة لتبرير الإخفاقات المتكررة والفشل المحتمل، كما أنّه لا يدخل في باب الرثاء لثورة تجسّد الحلم بالخلاص وقد أضحت دريئة وحيدة يصوّب إلى قلبها المرجفون حمم حقدهم وغدرهم، ويقذفها الأغرار بوابل عجزهم وتواكلهم، لكنّ الأحلام العظيمة لا تموت إنما تنبت لها أجنحة كي ترفرف وتعلو على رغبات الصاغرين، والحلم بالحرية أبعد من أن تطاله نيرانهم البائخة أو أن تنال منه سهام حججهم المتهافتة.

لقد طال أمد التيه والضياع وآن للسوريّ أن يخرج من النفق المظلم الذي قاده إليه وَهْمُ اليتم وما يستدعيه من الذلّة والمسكنة، واستثمرت على ضعفه دولٌ وقوى وشخصيات انتهازية، هبطت بمظلات رماديّة من سماء لا لون لها، فالحرية لا تكون إلاّ بالتحرّر من عقدة الخوف والاضطهاد، وبالتمرّد على الأوصياء الذين يحولون دون بلوغه عتبة الحِلم، ولن يتحقق الانتصار على الطغيان وداعميه بغير وحدة الثوار والارتكاز إلى دالّة الثورة وما تؤكد عليه من ثوابت قيمية ووطنية وإنسانية، وما تفرضه من تجرّد والتزام بالأهداف السامية والغايات النبيلة التي انطلقت من أجلها.

 

 

علي محمد شريف

رئيس القسم الثقافي 

Whatsapp