مازلنا في نفحات شهر الصوم الفضيل، الذي يصادف في 15 منه بكل عام يوم اليتيم في عالمنا الإسلامي، تلك المناسبة التي تهدف لإدخال البهجة والسرور إلى قلوب الأيتام إذ صار هذا اليوم عيداً لهم، للاستمتاع بأوقاتهم، في عالمٍ يعاني أزمة خطيرة في القِيَمْ، وخاصة الأخلاقية منها، التي تجتاح العالم كله، بما فيها جميع البلدان العربية؛ ودون الدخول في تاريخية هذا العيد- عالمياً وإسلامياً وعربياً- فإنها لأهمية بالغة أن يقوم المفكرون والمثقفون والإعلاميون وقادة المؤسسات المدنية العربية والإسلامية بمواجهة تلك الأزمة التي تكون على أشدها مع اليتامى.
وتعتبر الأسرة العمود الفقري لتأهيل الأفراد على المستويات النفسية الاجتماعية، الثقافية والأخلاقية منذ السنوات الأولى للميلاد بناءً على مهامها التربوية تجاه الأبناء؛ إذ تتجلى أهم وظائفها النفسية في إشباع الحاجات العاطفية عن طريق العلاقات الوجدانية وتوفير الأمن والطمأنينة، كشرط أساسي يساعد على التبلور الإيجابي للملامح الأولى لشخصية الطفل.
على هذا الأساس يتحقق استقرار الخلية الأسرية عن طريق ضمان وظيفيتها وفاعليتها الاجتماعية بعيداً عن عوامل التشتت الأسري المتمثلة في فقدان أحد الوالدين أو كلاهما معاً، من خلال وضعية الطلاق، الهجر، الوفاة، الحرب، الحريق، حوادث المرور، في الحج، أو في مجزرة.. إلخ وما أكثرها كلها في أيامنا بالداخل والشتات السورييّن، باعتبار أن التشتت الأسري هو ذلك الخلل أو الانحلال الذي قد يصيب العلاقات والروابط القائمة بين الوالدين أو بينهما وبين أبنائهما، نتيجة عجز أحد هذه الأطراف الثلاثة عن القيام بالدور الذي يتوجب عليهم القيام به، سواء كان ذلك بشكلٍ إرادي أو قسري مما يجعل من الأبناء الضحية الأكثر تضرراً من جراء وضع هذا التشتت المأساوي.
وإن هناك أعداداً كبيرة ومعتبرة من الأطفال اليتامى أجبرتهم ظروف الفقدان الذي تعرضوا له إلى توجيههم نحو دور الرعاية التي في الغالب لا تضمن التأهيل النفسي لليتامى المتواجدين- وقد بينت بعض الدراسات وجود علاقة طردية بين وجود الأطفال في دور الأيتام والإيواء واضطراب الصحة النفسية لديهم حيث أن 86 ٪ من المؤسسات لا تلبي حاجات الأطفال النفسية على اختلافها، الأمر الذي ساعد على ظهور العديد من المشكلات النفسية لديهم- على هذا الأساس تبقى مسألة تأهيل مؤسسات دور الرعاية للأيتام من حيث تكوين المربيين والمختصين النفسانيين من أجل التأطير والرعاية للطفل اليتيم، ضرورة ملحة وتحدٍ يجب أن ترفعه جميع القطاعات والمؤسسات ذات الصلة، خصوصاً بعد الأرقام المخيفة المسجلة من السوريين، حول أعداد الأطفال اليتامى الذي بلغ عدداً يصعب إحصائه في ظل الظروف التي يعيشونها بلا مأوى أو رعاية وهم عرضة لأعتى أنواع التشرد والخوف والحرمان.
أمام هذا الوضع تبقى الأسرة البديلة- باعتبارها تكفلاً أسرياً- هي المنفذ الوحيد والمنقذ لوضعية الطفل اليتيم إذا توفرت فيها المعاملة المتوازنة الإيجابية عبر تأهيلها لذلك مما يسمح بالاستثمار العلائقي والنفسي للطفل لتحقيق ذاته؛ باعتبار أن التنشئة الأسرية في مرحلة الطفولة بمثابة الحجر الأساس لضمان النمو السليم للفرد على المستوى النفسي والاجتماعي لبناء شخصية متوازنة خاصة في وسط أسري، من خلال أبعاده العلائقية والوجدانية ومدى استقراره اجتماعياً واقتصادياً.
على هذا الأساس تكتسي عملية التكفل الأسري للأطفال اليتامى أهمية بالغة، لاعتبارات عدة متعلقة بالخصوص بالتداعيات والانعكاسات التي يمكن أن تفرزها وضعية اليتم على معاشه النفسي، والحد من انعكاسات التشتت الأسري على الصحة النفسية لهذا اليتيم وقِيَمْ الإنسان عامة.
وتحتل مسألة القِيَمْ الأخلاقية والسلوكية والاجتماعية حيزاً كبيراً وبارزاً في القرآن الكريم والأحاديث النبوية والتراث الفقهي، فالإسلام هو عقيدة وشريعة وأخلاق، وللأخلاق مركزيتها في هذا الدين، ولأن التراث الإسلامي مكوِّن أساسي وتاريخي لثقافة جميع المسلمين، فإن هذه القِيَمْ تهم الجميع مسلمين ومسيحيين وأتباع أية ديانة أخرى؛ فالشريعة الإسلامية تضع الأيتام في مكانة ومنزلة خاصة وتدعو دائماً إلى رعايتهم والقيام على قضاء حوائجهم وتقديم كل أشكال الرعاية لهم، للتخفيف عنهم وإشعارهم بالحب والحنان الذي يفتقدونه، وذلك باعتبارهم جزءاً لا يتجزأ من نسيج المجتمع، ولذا ينبغي علينا أن نُشعر اليتيم بوجودنا ورعايتنا- ليس في يومه فقط- بل في كل أيام العام.
لنأخذ بعضاً من الإشارات إلى القِيَمْ التي يذخر بها القرآن الكريم والأحاديث النبوية فنجد مدى تنوعها وتفاصيل تطبيقاتها خاصة مع الأيتام، وجاء بالقرآن الكريم: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: 152]، و ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ﴾ [الضحى: 9]، و ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۚ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 34]، بالإضافة إلى كثير من الآيات التي أشار الله سبحانه وتعالى فيها لليتيم، وحذّر من الإساءةِ إليه، كما أن رسول الله (ﷺ)، قد عاهد من يكفل يتيماً على أن يكون جاراً له بالجنة، حيث يقول (ﷺ): (أنا وَكافلُ اليتيمِ في الجنَّةِ كَهاتين، وأشارَ بالسَّبَّابةِ والوُسطى، وفرَّجَ بينَهما شيئاً)، وهذا دليلٌ واضحٌ على عظمة الأجر الذي يناله من يُحسن إلى اليتيم، ويعوّضه عن فقدان والداه أو أحدهما، ويجبر كسر قلبه، ويعينه على حوائج الدنيا، وإدخال البهجة والسرور في نفسه، وحمايته من الاضرابات النفسية، ودعمهِ بشكلٍ مستمر ومساندته وإعطائه الحرية في التعبير، ومناقشته في أمور الحياة، سواءٌ كانت شخصية أو عامة.
صحيحٌ أن الإنسان يحتاج إلى والديه ليشعر بالدفء والأمان ويتعلم منهم المزيد من الخبرات في الحياة، وهذا ما يفتقده اليتيم ويبحث عنه في أقاربه وفي محيطه الاجتماعي، ولكن الكثير، الكثير، منهم يتخطى هذا الشعور ويتحلى بالصبر والسعي للنجاح في الحياة، ويحقق نجاحات كبرى في حياته ويصبح من المشاهير والمبدعين المعروفين وما أكثرهم؛ ومنهم مثلاً «مارلين مونرو» و«جون لينون» و«ستيف جوبز» و«بيب روث» و«إدجار آلان بو».
عبد الباسط حمودة
كاتب سوري