يحفظ التاريخ في صفحاته أسماء لا حصر لها لشخصيات ولدت يتيمة أو تيتمت في السنوات الأولى من عمرها تركت بصمتها على المجتمعات البشرية وغيرت مسار التاريخ الإنساني. شخصيات عظيمة كان لها أثر كبير لا يمحى على مجتمعاتها المحلية ودولها الوطنية وأحيانًا على البشرية جمعاء. نذكر منها: سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، البخاري، الشافعي، أحمد بن حنبل، ابن الجوزي ، الغزالي ، المتنبي ، الشيخ أحمد ياسين، جنكيز خان، ستالين، نيلسون مانديلا، بيل كلينتون، جمال عبد الناصر، ياسر عرفات. الخ والقائمة لا تكاد تنتهي.
لكن وبالمقابل فإن الكثير من الأيتام – الذين لم يكن لهم ذكر في صفحات التاريخ – ألجأتهم ظروف اليتم والفقر وفقدان الرعاية والإهمال إلى مسالك الجريمة والادمان والرزيلة وعاشوا على هامش الحياة والتاريخ.
فما هو العامل الأهم في تمايز المسار بين المجموعة الأولى والثانية . إن فقدان الرعاية والعناية من أحد الوالدين أو كليهما للطفل الصغير يشكل عاملًا مهمًا من عوامل تكوين شخصيته وصقلها ورسم مستقبلها، فغالبًا ما يتعرض اليتيم – بغياب الرعاية البديلة - إلى ضغوطات نفسية واجتماعية ومالية تؤثر على نظرته لذاته وتفاعله مع محيطه، وتقود اليتيم إلى أحد اتجاهين : إما أن تنمو في داخله حالة من التحدي للظروف التي عاشها ينشأ عنها إرادة داخلية صلبة وطموح كبير يدفعه نحو البحث عن إثبات ذاته أمام نفسه وأمام المجتمع الذي أتاح لغيره من الأطفال ما حرمه منه. الأمر الذي يفجر في داخله طاقة ضخمة تساعده على قهر الظروف وشق طريقه نحو التميز والانجاز على مستوى المجتمع .
وإما أن تتنامى في داخله مشاعر الكراهية والحقد على المجتمع الذي أتاح لغيره من الأطفال ما حرمه منه. الأمر الذي يعزله عن المجتمع رويدًا رويدًا فيبدأ بالخوف من المجتمع وينتهي بالحقد عليه ومحاولة الانتقام منه عبر الجريمة أو السرقة أو تحدي عاداته ومخالفة قيمه.
لا شك أن للظروف المحيطة والبيئة الاجتماعية التي نشأ فيها اليتيم والعوامل الذاتية المرتبطة بطبيعته وخصائص ذاته وينيته النفسية دور كبير في المسار الذي يسلكه: التميز والانجاز أو الجريمة والانتقام. لكن هناك عامل محوري مهم للغاية ويكاد يكون العامل الحاسم في تحديد المسلك الذي ينتهجه اليتيم في حياته. ألا وهو وجود الكافل الذي قرر في أعماقه اعتبار هذا اليتيم واحدًا من أولاده واعتبار نجاحه وتحقيق طموحاته هدفًا استراتيجيًا من أهداف حياته. إن وجود أو عدم وجود جهة أمينة ترعى الطفل اليتيم وتعتني به وتهتم لمشاعره وأحاسيسه وتمهد له طريق النجاح والانجاز وتمسح بأصابع اللطف والحب على العقبات التي تواجهه فتزيلها وعلى القيود التي تعيق حركته فتحطمها وعلى الحفر التي تعترض طريقه فتردمها هو المحدد الأهم للطريق التي سيختارها اليتيم عند وصوله إلى التقاطع الخطير الذي يفترق بعده الطريق أمامه باتجاه التميز والابداع أو الانحراف والجريمة. من أجل ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة " وأشار إلى السبابة والوسطى، وفي رواية أخرى: " كافل اليتيم - له أو لغيره – أنا وهو كهاتين في الجنة " .. إن استحقاق هذه المنزلة السامية لكافل اليتيم يعود إلى أهمية اختيار أحد المسارين على حياة اليتيم ومستقبله ومصيره وانعكاس ذلك على محيطه ومجتمعه وأمته. فالمسألة ليست مجرد تأمين احتياجات وإنما تحديد مسارات. المسألة ليست مجرد تلبية ضرورات مرحلية تؤمن لوازم الحاضر وإنما التوجيه نحو خيارات استراتيجية ترسم معالم المستقبل.
شخصيًا أعرف العديد من الأمثلة لأشخاص كبار النفوس تكفلوا أيتامًا – لهم أو لغيرهم. قريبين أو بعيدين - دون ضجيج وأمنوا لهم لوازم النجاح من وراء ستار حتى أوصلوهم إلى نقطة الاستقرار والتوازن والاعتماد على الذات. فما أعظم هؤلاء وما أثقل أعمالهم، وما أجمل الدين الذي شكل الدافع لهم لهذا العمل .
في يوم اليتيم العالمي أختم مقالي برسالتين: الأولى لليتيم: أن اجعل يتمك مطية لبلوغ أهداف عظيمة وتحقيق غايات نبيلة. وتذكر أن الشدائد هي مصانع الابداع والانجاز، وأن الله تعالى الذي آوى نبيه لا يترك من توجه إليه وطلب منه واعتمد عليه. أثبت لمن حولك أن اليتم دافع للحركة والانجاز وبلوغ القمم .
الثانية لكل من يقدر على كفالة يتيم : هو باب عظيم من أبواب الخير في الدنيا والآخرة. احمد ربك على ما أنعم عليك وشارك في استقرار مجتمعك وتحقيق درجة من التكافل فيه عبر العناية بيتيم. مهد الطريق أمامه لتحقيق طموحاته وأمام ذاتك لرفقة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم في الجنة.
د معتز محمد زين
كاتب وطبيب سوري