هل تسكت مغتصبة؟؟


 

لكنها لم تسكت. هم وحدهم من خرسوا، أشقاؤها وأبناء العمّ والخال، الجيران ومدّعوا ودّها ووصلها، رؤساء القبائل وشيوخ العشيرة الإنسانية، جميع هؤلاء أشاحوا بأبصارهم عن لطخة الدم على وجوههم الصفراء، وعن القذارة التي استقرت فوق شواربهم المعقوفة، وصمّوا آذانهم المتدلّية على رقابهم الملتوية عن صوتها المزلزل وأنينها المكتوم. 

نادت، استغاثت، صرخت، لم يهبّ لنجدتها إلاّ أبناؤها الصادقون الطيبون وبعض ممن تغلبت نخوته على ضعفه فتجاسر على سجانه الأمرد، أما الجيوش فقد غلّت أياديها بقرارات قوّادها المؤتمرين أو الأغرار المستغفلين، فأفسحت للغاصب أن يغرس خنجره المسموم في صدر الكنعانيّة السمراء، وأن تدنّس قطعانه بيارات الليمون والزيتون... مع ذلك لم تسكت، بل زمجرت وانتفضت، بصقت في وجه القوّادين وأنشبت أظفارها في عيني غاصبها.

لم تسكت، لقد أطلقت الصوت عالياً ومجلجلاً كي تفضح جلاّديها الكثر، وتكشف زيف افتئاتهم على الحقيقة، وافتراءاتهم القذرة بحقّ الضحيّة، إذ لطالما حاول المستبدّون التنصّل من جرائمهم فعمدوا إلى تزوير التاريخ والتعمية والتضليل، وإلى تسميد تربة التخلف والجهل، واستنبات ثقافة مزاجها البؤس والخوف تجرّم الضحايا فتحملهم الوزر والمسؤولية فيما تبرّر للمجرمين عدوانهم، بل وتمنحهم صكوك البراءة وتؤسطرهم في سجلات الأبطال والخالدين. 

ولأنها خبرت خسّة الضباع البشرية ودناءة المعتدي انكمشت على ذاتها وخشّبت أوصالها، ولأنّها تعلم فداحة جمالها وفتنتها وما تكتنزه تضاريس جسدها من عسجد وبهار فقد تكوّرت مثل أجمة من الشوك، ثمّ انفجرت لتكون قطعاً من نارٍ تحرق الغيلان الزاحفة إلى قدسها ومقدّسها. 

كانت تعلم عن ذلك اليوم الذي يمسي فيه هلالها سيفاً مثلّما في أيدي الصغار يقطع أوصالها ويرمي لانتزاع قلبها، ويصبح صليبها أداة للتعذيب تدقّ المسامير في أشلاء جثتها المصلوبة على خشبه المزخرف، لكنها بالرغم من جراحها تمرّدت على هؤلاء الطغاة المتهافتين على حلوى الدمّ، وألصقت فوق جباههم مزقاً من أسمال سروالٍ متسخ كان يوماً ما يستر عورات دجلهم وخياناتهم.

أدركت الضحيّة منذ البدء أن قضيتها وجوديّة عابرة لاسمها ولحدود جغرافيتها، وأن حريتها لن تتحقق بمعزل عن حرية الأمّ، فالاغتصاب، تلك الجريمة المستمرّة الحدوث والأثر، يستهدف البيت الكبير المسمّى بالأرض وكل حرّ من العائلة البشرية الساكنة فيه، ثمّ إنّ الغاصب ينتمي لذات فصيلة الضواري المفترسة، هوّيته الطغيان وهدفه الاستعباد، أياً كانت لغته ورايته واسمه الحركيّ.

لقد صدحت فلسطين بنشيد الحرية الهادر وأطلقت شهبها وبروقها على قطعان الوحوش فألهمت أبناء أمّها المكلومة سورية بعضاً من معالم طريق الخلاص، وسكبت بعضاً من زيتها القدسيّ في مرجل ثورتها الملتهب، يقيناً منها بأنّ السبيل إلى طرد الغاصب الخارجيّ هو التحرّر من براثن غاصبٍ داخليّ مأجور تفوّق في طغيانه ووحشيّته على مستأجره، وأن لا هواء يطيّر جدائلها سوى هواء دمشق.  

أبداً لا تسكت مغتصبة ولا تخجل من الجهر بآلامها وعذاباتها، لعلّها تستحي من النظر إلى عورة أبيها وأبناء عشيرتها التي افتضحت وتحاول سترها، وربما تغضب من هوانهم، ومن تذررهم وضعفهم وقلة حيلتهم، لكنها ستسعى إلى استنهاض عزيمتهم، وستمنحهم الرؤيا والقوة والإيمان، وتبث في قلوبهم الشجاعة والحبّ، وستجهد لإزالة ما يمكن أن يعلق على وجوههم المحمرّة من قشورٍ قد تتحوّل مع التقاعس والتواكل إلى حراشف صلبة سوداء، تشبه تماماً تلك التي تعلو جلود التماسيح.

 

 

علي محمد شريف

رئيس القسم الثقافي 

 

Whatsapp