يوم النكبة الفلسطينية قبل 74 عاماً لم يكن حدثاً منفصلاً عن سياق الخطط المتتابعة والممولة دولياً، منذ ما قبل مؤامرة مؤتمر بازل في سويسرا في 29 آب/ أغسطس 1897 وبكثير حتى أيامنا هذه، إنه السياق الذي جاء عبر اللقاء البريطاني الفرنسي الروسي الإيطالي لاختراق مفاعيل المنطقة، ولجعل تحطيم السلطة والسلطنة العثمانية ضرورة للوصول ليوم النكبة الكبرى في 15 أيار/ مايو 1948.
لقد بدأ الكفاح الفلسطيني مبكراً لرد الهجمة الصهيونية وآثارها، ولكن الفعل كان أشمل وأوسع لتحقيق الخطط الدولية لإنشاء كيان صهيوني يمثل خنجراً في قلب الأمة يتقابل مع الخنجر الشرقي في الأحواز العربية، متقاطعاً مع عقابيل مشروع سايكس- بيكو في 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 1916، كمقدمة لتصريح وعد بلفور في 02 تشرين الثاني/ نوفمبر 1917بإقامة كيان صهيوني في فلسطين.
في يوم 15 أيار/ مايو 1936 تبنت اللجنة العربية العليا في فلسطين شعار العصيان المدني دعت المواطنين فيه لعدم دفع أية ضرائب أو رسوم لحكومة الاحتلال البريطانية، وفي 15 أيار/ مايو 1947 جاءت الدورة الاستثنائية للجمعية العامة للأمم المتحدة لتصدر القرار رقم ( 1947/106)، الذي أنشأ لجنة خاصة لفلسطين والتي أسست لمشروع تقسيم فلسطين، وتوج في 15 أيار/ مايو 1947 بالطلب من الفلسطينيين والعرب عدم القيام بأي تهديد بالقوة أو استعمالها أو أي عمل آخر يمكن أن يخلق جواً ضاراً بتسوية مسألة فلسطين، وكان مقدمة لإعلان انتهاء الانتداب البريطاني لفلسطين في 15 أيار/ مايو 1948 وتسليمها للعصابات الصهيونية الذي جاء عندما أدركت بريطانيا أن الحركة الصهيونية أصبحت قادرة على شق طريقها بنفسها دون الحاجة لمساعدتها وأن تنفيذ تصريح بلفور بات وشيكاً، وبهذا الإعلان يكون قيام ما تسمى دولة إسرائيل قد دخل حيز التنفيذ، ثم جاء دخول الجيوش العربية السبعة إلى فلسطين ومن ثم هزيمتها جميعاً بفضل تخلفها وتلكم الخطط الغربية لتمكين الصهاينة من فلسطين والمنطقة واستمرار النكبات والضغوط لمنع أية حالة تقدم ونهوض لوقفها.
وبهذه الأيام وبعد 74 عاماً على نكبة الفلسطينيين الكبرى (1948- 2022)، ومع غياب الضمير العربي والعالمي، وعلى وقع غزو أوكرانيا ومفاوضات النووي الإيراني؛ لكأن الجواب يأتي مُدوياً من شعبِ فلسطين، للأنظمة والمشيخات والممالك العربية، معلناً «إذا كان الإسرائيلي قد وجد ضالته عندكم، فإن ذلك لا يحجب حقيقة أننا هنا لا نقرر فقط مستقبل فلسطين- القضية، بل مستقبل كل الأمة العربية ومعها الشعوب الإسلامية، وإنه مع غياب فلسطين عن أفق العمل العربي المشترك، المتراجع أصلاً، تصبح فلسطين حرة أكثر وتصبح فلسطين هي الفلسطيني الذي يقاتل ويقاوم ويصمد ويُنازل ولا يتنازل، لكأنه يريد القول أنه هو المرجعية وهو من يقرر ويحاسب ولا يستطيع أحد أن يفاوضَ بإسمه».
لقد انتهى زمن العتب والعتاب بين الفلسطيني والأنظمة الرسمية العربية المتهالكة، وذلك بعد 74 عاماً من الارتهان بلا طائل والانتظار بلا نتيجة، فلقد انتظر الفلسطينيون طوال عقود من الزمن أن يأتي العرب إليهم، فكانت النتيجة أن إسرائيل صارت في كل قطر عربي من المحيط إلى الخليج وها هي طائراتها تدنس المطارات والأجواء العربية؛ فهل يكون مُستغرباً أن تسقط هذه الأنظمة من الوجدان الفلسطيني؟ وهل لليأس إلا أن يجعل الفلسطيني أكثر ثقة بذاته ورهاناً على نفسه؟
وإذا كان من رهان على تغيير الأنظمة العربية وعلى انتصار الشعوب العربية على جلاديها، فإن ذلك يبدأ من صمود الفلسطيني في أرضه، ولا سيما في القدس عنوان القضية؛ فالمعذرة للفلسطينيين المحتشدين في ساحات وباحات المسجد الأقصى، نعتذر منكم لأننا لسنا قادرين جغرافياً على الوصول إليكم، لكننا نشد على أياديكم ونقولُ لكم ثقوا أن هذا الصمت العربي المدوي، وهذا الذل العربي الفاجر، وهذا الانبطاح العربي المخزي، والتآمر الدولي الداعر، هو كله تحدٍ إضافي إلى تحدي مقاومة العدو الإسرائيلي.
هذا هو التحدي؛ تحدي الذات وتحدي فلسطين؛ فكلما تأكد وجودكم في فلسطين سيتأكد وجود الأحرار العرب من حولكم، أما الأنظمة فستكتشف ولو بعد حين أنها بتطبيعها مع العدو ستجد هذا العدو يصادر مقدرات شعوبها ويلغي جيوشها فتصبح أسيرة هذا الكيان المغتصب وأطماعه التوسعية وتحالفاته ومفاوضاته النووية؛ وعندها يحق للفلسطينيين القول أننا أصبحنا مطالبون بأن نحرركم نحنْ لا أن تحررونا أنتم، لا سيما بعد أن عرفنا معنى التحرير- التطبيع والتضييع والقتل والاعتقال، على طريقة كل أنظمة الردة العربية.
إن إنشاء الكيان الإسرائيلي على القسم الأكبر من مساحة فلسطين التاريخية، جاء بالقوة ومجازر العصابات العسكرية الغاشمة، تنفيذاً لرغبة المستوطن الصهيوني الطلائعي بن غوريون المدعمة من الغرب والشرق، حيث اختزلت الحركة الصهيونية وإسرائيل من خلالها أهم المنطلقات الاستراتيجية لاحتلال فلسطين، وتهويدها في نهاية المطاف، وتابعت هذه العصابات مجازرها وتدمير المنازل، والضغط على الفلسطينيين في القرى والمدن الفلسطينية كافة خلال الفترة من كانون ثاني/ يناير 1948 وحتى أيار/ مايو من العام ذاته.
ولم تتوقف المجازر الصهيونية وتدمير المنازل بعد عام 1948، فخلال عام 1967 هجر الجيش الإسرائيلي 460 ألف فلسطيني من الضفة وقطاع غزة وأصبحوا نازحين خارج ديارهم؛ وفي سياق مجازرها المنظمة، ارتكبت إسرائيل مجزرة مروعة في ساحة المسجد الأقصى عام 1990، ذهب ضحيتها ثلاثة عشر فلسطينياً، كما ارتكب مستوطن صهيوني مدفوع من الأحزاب الإسرائيلية مجزرة في الحرم الإبراهيمي، ذهب ضحيتها عام 1993 نحو ستين فلسطينياً من المدنيين العزل.
ولم تكن المجازر الإسرائيلية محصورة في فلسطين، بل تعدت ذلك إلى المناطق العربية الأخرى، فضلاً عن ذلك ارتكب ”الموساد“ الإسرائيلي مجازر عدة داخل فلسطين وخارجها، ناهيكم عن الاغتيالات المنظمة للعديد من سفراء فلسطين ومثقفيها في الخارج، ولم تتوقف فصول الاغتيالات والمجازر الصهيونية والإسرائيلية، فخلال الفترة (1948- 2022)، استخدمت إسرائيل- كما الأنظمة العربية- المجازر كأدوات أساسية للحفاظ على البقاء، خاصة أن مشكلة الأمن الإسرائيلي كانت، وما تزال، الشغل الشاغل لأصحاب القرار في إسرائيل، التي قامت في ظروف دولية وإقليمية استثنائية على حساب الشعب الفلسطيني وأرضه، وبدعم غربي على كافة المستويات العسكرية والسياسية والمالية.
وكما استصرخ المناضل الكبير فخرى البارودي، شباب الأمة، في كتابه «كارثة فلسطين العظمى» لعلهم يقفون بوجه الحلم الصهيوني، فقد برزت الكثير من الكتب مثل «معنى النكبة مجدداً» للدكتور قسطنطين زريق، وله مع آخرين «نكبة 1948: أسبابها وسبل علاجها»، كما «تقسيم فلسطين؛ من الثورة الكبرى 1937-1939 إلى النكبة 1947-1949» لوليد الخالدي؛ وأن للكثيرين عرباً ومسلمين كتب وكتابات- لا يتسع المقام لذكرها- تدفع بهذا الاتجاه للوقوف مع شعب فلسطين؛ وها نحن فى القرن الحادي والعشرين ننادي وندفع بنفس الاتجاه، وما زالت قضية فلسطين حارَّة وتنتظر أنصارها من الأحرار.
عبد الباسط حمودة
كاتب سوري