الجحيم السوري ومملكة القتلة


 

 

لم تكن سورية وإنسانها في وعي منظومة الإجرام الأسديّ سوى قربانٍ على مذبح أوهامها القاصرة في السلطة والسيادة، ومجالٍ متاح للثأرِ من تاريخ لا فضل ولا ذكر لها فيه إلاّ كلطخةٍ سوداء وعارٍ أبديّ لا تمحوه عاديات الزمن، ولتدمير حضارة إنسانية غريبة عن كينونتها المتوحشة.

ما إن تمكنت هذه الفئة المجرمة من احتلال مواقع السلطة حتى حوّلت جنّة السوريين إلى جحيم، فباتت سورية مملكة لزمرة من القتلة وأكلة لحوم البشر، أطلقت العنان لأجهزتها وأسلحتها الفتاكة في الاعتقال والخطف والإذلال والتعذيب المفضي للموت والتطهير العرقي، بغية خلق مجتمع بهيميّ متجانس على شاكلتها، تقوده غرائز بدائية لم ولن يستطيع الإرث الإنساني والمنجز الحضاري الممتدّ عبر ألوف السنوات أن يخترق قشرتها الصلبة، أو أن يغيّر في جيناتها الحيوانيّة المستذئبة.

في التعاطي مع الأحجية السورية يغدو الحديث عن الدولة والمواطنة وحقوق الإنسان ضربا من العبث وربما ترفاً وتنظيراً لا معنى له، فما جرى ويجري من فظائع وإرهاب رسمي في سوريا، وما تمارسه منظومة الإجرام الأسديّ منذ خمسة عقود من ترويع وسياسات عنفيّة وإجرام منظم قد يودي بالعقل للاستقالة إن نحن حاولنا تحليله وتوصيفه واستيعاب دوافعه وأسبابه، وقد يوحي بأنّ مطلق الشرّ الذي تمثّله هذه الفئة الضالّة لا يمكن مقابلته والقضاء عليه إلّا بشرّ مطلق يفوقه، كطريق أوحد يمكّن الضحيّة من قاتلها ومن اجتثاث جذوره واستئصال مقوّمات وجوده.

قد تكون مجزرة حي التضامن التي أعادت الغارديان مؤخراً التذكير بها مدخلاً ممكناً لفهم مجريات الواقع السوري، وصورة مبسطة لفهم بنية نظام دمويّ فئويّ وطريقة تفكيره وتعاطيه مع شؤون ما يفترض ظلماً أنه وطنه وأنهم أبناء وطنه، هنا في هذه المجزرة المصوّرة والموثّقة يظهر جليّاً أنّ حيّ التضامن السكنيّ، كما هو حال جميع الأحياء والمناطق الواقعة تحت سيطرة هذا النظام المافيوي، قد تحوّل إلى معسكر للاعتقال مغلق بالحواجز والدشم، ترابض فيه الآليات والمعدات الحربية، وتنتشر في أرجائه وشوارعه الغيلان والضباع العسكرية والأمنية، وأنّ قاطنيه من السكان المحليين المسالمين باتوا مجرّد رهائن وأسرى في حيّهم المعتقل. 

يظهر أيضاً أنّ الحفرة المعدّة لإعدام الضحايا وتكديس جثامينهم فيها قد حفرت في طريق إسفلتيّ وبآليات ثقيلة، وهي عميقة وواسعة بحيث تتسع لأكبر عددٍ منهم، كما أن ملامح المغدورين وهيئاتهم وأعمارهم المختلفة تشي بوضوح بأنهم عينة عشوائية من المدنيين، ليس بالضرورة أن يكون لأفرادها انتماء سياسيّ أو موقف مناوئ للسلطة، لكنّها مع ذلك تنتمي لطائفة محدّدة ومستهدفة وبالتالي فإنّ اعتقالها لم يكن اعتباطيّاً وهو ما يؤكده أسلوب مرتكبي المجزرة الغادر والمستهتر، وسلوكهم وكلامهم، وبخاصة ضابطهم المسؤول، واللكنة الثأرية الحاقدة والمتشفية.

لا قدسيّة للوطن ولا اعتبار لآدمية المواطن ولا لحياته في عقيدة هذه الضواري الإجرامية المنفلتة من عقالها، ليس مهمّاً في عرفها أن يكون الضحيّة مسنّاً أو طفلاً، امرأة أو رجلاً، سوريّاً أو فلسطينياً، مسالماً أو معارضاً...، بل يكفي ألاّ ينتمي إلى زمرتها المتوحشة، ، كيما يكون مصدر قلق وتهديد لمملكة القتلة، ولوحدة نوعها البهيميّ وتجانسها القائم على الاشتراك في الهمجيّة والحقد والتعطش للدم، بل إنّ أهمية الإنسان لديها، إن وجدت، من كونه طريدة أو فريسة لغرائز أتباعها، للاستمتاع بتقطيع أوصاله والتلذّذ بتعذيبه، والتشفّي بقتله تحقيقاً لذواتهم المبتورة عن كينونتهم البشرية. 

وبالرغم من الفظاعة والشناعة ومظاهر القسوة المرعبة التي تكتنف تفاصيلها الفائقة للاحتمال والتصور البشري، فإن مجزرة حيّ التضامن ليست أكثر من تفصيل صغير في مخطط واسع بالغ التشابك والتعقيد في مشروع السلطة الأسدية الاستئصاليّ، ومشهد قصير في مسلسل طويل عنوانه فناء شعب وزوال دولة.

 

 

علي محمد شريف

رئيس القسم الثقافي

Whatsapp