بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، في تقرير صادر عنها حديثاً، فإنه ما يزال قرابة 132 ألف معتقلاً في سجون النظام السوري، بمن فيهم المغيبين أو المختفين قسرياً الذي يبلغ عددهم بحسب ذات المنظمة حوالي 87 ألف حالة.
هذا الرقم الضخم الذي أورده تقرير المنظمة الحقوقية، وهي تحظى بالمصداقية وتعمل بشكل احترافي، يأتي بعد المرسوم التشريعي الذي حمل الرقم 7/ 2022 الصادر في 30 نيسان/ أبريل الماضي الذي قيل أنه (عفو) عن الجرائم المرتكبة حتى تاريخ صدوره، عدا تلك التي تشمل جرائم القتل، والذي لم يكن في حقيقته إلا أحد أضاليل النظام وخدعه المعهودة ( بلغ عدد المفرج عنهم والموثقة أسمائهم 476 فقط).
من المعروف في هذا الصدد أن من طالهم الاعتقال أضعاف هذا الرقم المعلن حديثاً، كون البعض قد أفرج عنهم بطريقة أو أخرى، وبعضهم قضوا جراء التعذيب كما تقول صور قيصر، وغيرها من شهادات الشهود، وأن البعض لم تتمكن المنظمات الحقوقية من توثيق أسمائهم نتيجة غياب المصادر الموثوقة أو تبليغ ذويهم عنهم نتيجة الخوف من الانتقام، إلى ما هنالك من أسباب وعوامل.
بالرغم من كل الحملات الدولية والتقارير الصادرة عن المنظمات المعنية والمناشدات الأممية والمطالبات السياسية إلا أن هذا الملف لم يطوَ، وبقي جرحاً نازفاً داخل كل أسرة سورية وفي كل بيت، وهو، بلا شك، أداة يستخدمها النظام في مواجهة شعبه وخصومه ليس بعد انطلاقة الثورة السورية المباركة، بل قبل ذلك بكثير جداً، منذ زمن الأسد الأب، ليصح القول أن تاريخ سورية في نصف القرن الأخير هو تاريخ الاعتقال السياسي والتغييب القسري والاحتجاز التعسفي خارج القانون، ومعه يصح ما وصف به هذا الحال أحد الكتاب العرب من أن السوريين يتعارفون على بعضهم من خلال المعتقلات والسجون باعتبارها بطاقات هوية وتعريف لكل منهم(CV)، ويقدمون أنفسهم من خلال عدد السنوات التي قضوها في المعتقلات والسجون، والتي من خلالها يتضح انتماؤهم الفكري واتجاههم السياسي وما إلى ذلك.
بعد ماسمي ب(العفو) الأخير طفى على السطح، مرة أخرى، ملف المعتقلين وقضيتهم باعتبارها قضية وطنية أولاً وأخيراً، واتضح مع مشاهد (مجزرة العفو) كم الآلام والعذابات التي يتحملها ذويهم، ناهيك عن عذاباتهم هم أنفسهم وأشكال الموت الذي نجوا منه كما تقول صورهم وأشكالهم وطرق حديثهم، كما تبين مدى تلاعب النظام بهذا الملف واستخدامه كأداة ضغط وابتزاز للحاضنة الشعبية للثورة، بل كوسيلة إرهاب وترويع للعامة من الناس، عدا عن كونها انتهاك صارخ لكل القيم الإنسانية والحقوقية والسياسية.
كان قد شكل فصل مسار المعتقلين عن المسار السياسي في المفاوضات مع النظام من قبل مؤسسات الثورة وهيئاتها، بعد أن كانت شرطاً مقدماً، وبعد أن تم التلاعب بمضمون القرار الدولي 2254، تخلياً واضحاً عنهم، بمعنى ما، كما عبرت عن الفشل في إدارة ملفات "الصراع"، كما كشفت عن حالة من الارتهان والعجز لمن تصدروا المشهد السياسي وزعموا تمثيل السوريين والتعبير عن آمالهم وطموحاتهم في مستقبل تحترم فيه حقوقهم وآدميتهم وإنسانيتهم.
لا يقتصر هذا الملف على النظام وحده بل هو أوسع من ذلك بكثير، ليمتد ويشمل كل قوى الأمر الواقع من مايسمى (قسد) إلى جبهة الجولاني، التي تسابقت مع النظام في انتهاكاتها وممارساتها الإجرامية.
ثمة ما هو مطلوب اليوم، بعد كل هذا الفشل والخيبات، ولا يجوز التفريط به أو التخلي عنه، والمتمثل في إعادة ترتيب الأولويات وإعطاء كل منها ما يستحق وعلى رأسها، وفي مقدمتها، ملف قضية المعتقلين والمغيبين، لتكون غير قابلة للتفاوض وسابقة لأي جولة قادمة منها، يفرضها المجتمع الدولي، باعتبارها طريقاً وحيداً، للحل في وطننا بعد تراجع احتمالية الخيارات الأخرى، كما هي على الجانب الآخر مقدمة لأي حوار وطني بين مكونات المجتمع السوري، والمقصود هنا تحديداً مع "قسد" التي تحاول من هنا وهناك، وعبر لقاءات مع أطراف وطنية عديدة، عبر صيغة حوارات برعاية دولية (لقاء استوكهولم الذي جرى مؤخرًا) انتزاع اعتراف بها وبمطالبها وتثبيت "شرعيتها" دون التطرق لمثل هكذا ملف على درجة كبيرة من الأهمية والخطورة.
التقدم في هذا الملف، مع النظام أو مع أي طرف آخر، يعني قرب خلاصنا من محنتنا وبداية لعهد جديد في سورية جديدة، طال حلم وأمل السوريين به.
عبد الرحيم خليفة
كاتب سوري