ليست المرة الأولى التي تقتتل فيها الفصائل والمجموعات المسلحة في المناطق خارج سيطرة نظام الأسد المجرم، كما أنها ليست المرة الأولى التي يذهب ضحية هذه الصراعات مدنيين عزل (آمنين)، أو هكذا يفترض، هُجروا من ديارهم بحثاً عن حريتهم وأمنهم وكرامتهم، وهي ليست المرة الأولى، أيضاً، التي يتخذ هؤلاء شعارات كبرى لحروبهم التي هي في حقيقتها، وكما بات واضحاً للجميع، لأجل مصالح خاصة ومغانم ومكاسب أصبحت هي غايتهم وهدفهم الأول.
تزامناً مع عسكرة الثورة، اضطراريًا، كانت هذه المخاطر قائمة وموجودة، وسابقاً لما حل بنا اليوم وهو مالم تعمل الأطراف المعنية على توخيه وتجنبه، خصوصاً في ظل غياب الضوابط والمرجعيات ووحدة قرار الفصائل التي تكاثرت ولم تعد تجد في التاريخ معيناً لأسمائها، قبل أن تأكل بعضها بعضاً، وتحديداً بعد أن أخذت طابعاً مذهبياً وطائفياً، وتسللت إليها جماعات التشدد والانغلاق والعنف التي منحها البعض وسام الوطنية والثورة تحت شعار نعم لكل البنادق التي تقاتل النظام، وهو الذي في الأساس دعمها وغذاها بطرق مباشرة وغير مباشرة ورعتها أطراف خارجية، وبعد أن تحولت بنادق للإيجار في بازار المصالح والصراعات الإقليمية والدولية، التي توزع ولاءها بينها على حساب حقوق ومطالب الشعب السوري ومصالحه، وشواهدنا على ذلك لا تحصى من دوما إلى الرقة.
هذه المخاطر التي لم تلق من يستمع إليها تحولت إلى كارثة بحق الملايين من أبناء المناطق "المحررة" مع من أجبر على الرحيل إليها، ولقد صمتت، منذ البداية، قطاعات واسعة من أهل الثورة وممثليها، عن هذه "الحروب" والممارسات، بل وبررتها، وأشاحت بوجهها عنها وعن مخاطرها، التي صبت في النهاية في مصلحة النظام المجرم، سواء لتشويه نبل ومقاصد ثورة الشعب السوري العظيم أو لجهة تآكلها ذاتيًا وتمكن النظام في المآل من ضربها وسحقها، تزامناً مع فقدان الثورة لحاضتها الشعبية بانكفاء قطاعات شعبية واسعة أو ترددها وحيرتها إزاء هذه الممارسات المرعبة وجملة سلوكياتها، من اعتداء على الحريات الشخصية وصولاً إلى التماهي مع النظام في كل ماهو شائن وغير مقبول أخلاقياً وسياسياً، لتكون سلطات أمر واقع مثلها مثل النظام وميليشيات (الإدارة الذاتية /الكردية).
الاقتتال الأخير يأتي في ظل تطور مهم وخطير، ومختلف عن سابقاته، يتمثل في الحديث عن عودة "طوعية" لما يزيد عن مليون سوري إلى المناطق (المحررة) التي يضبط الأمن فيها هؤلاء الذين لا يراعون حرمة دم أو مصالح شعب، ويتكرر بين الفينة والأخرى اقتتالهم حتى يتدخل الصديق التركي ليطفئ نار "الفتنة" ويعودون إلى حدودهم، ما يطرح سؤالاً جدياً مفاده إلى أين سيعود هؤلاء، ونحن أمام متغيرات في المزاج العام وانقلاب في السياسات.؟؟!!
يقتضي المنطق والواقع الوقوف عند هذه الجماعات ودورها وبنيتها، بعد أن تحولت إلى ميليشيات تابعة ومنحرفة وفقدت مبررات وجودها بتخليها عن ماهو مناط بها ولأجله وجدت، وهو قول بات لكثرة تكراره باهتاً، للدفاع عن الثورة والمناطق المحررة، ولا نريد في هذه العجالة استعراض تاريخها وسلوكها وهي التي اتخذت شرعيتها من مزاعم مواجهة نظام القتل والإجرام كأداة دفاع عن مصالح شعبنا الثائر ولم ينله منها إلا الخيبات والخذلان، مع إدراكنا لحجم الاختراقات داخلها من طرف النظام ومموليها وداعميها، وحقيقة أجنداتها.
من حق الشعب السوري، اليوم، أن يطالب بمحاسبة هؤلاء وسؤالهم وسؤال كل من وفر لهم الغطاء السياسي تحت دعاوي الوطنية ومطالب الحرية، كما المؤسسات التي تدعي تمثيل الشعب السوري وثورته، عن طبيعة علاقتها بهولاء وموقفها منهم ومن ممارساتهم بعيداً عن فقه التبرير ومعاجم الكذب الذي لا يتوقف.
لقد بلغ الأمر مع هؤلاء حدوداً، ودرجات، لا يمكن قبولها أو تصديقها، والسؤال الأهم والأكثر حساسية للصديق الجار لماذا لا يسحب الغطاء عنهم وتعريتهم.؟!
قراءة المشهد بواقعية تشير إلى أن هؤلاء نجحوا بشكل باهر بفطنتهم وغفلتنا وآن الأوان لفضح كل ذلك وإعادة ترتيب أوراقنا وصفوفنا، ومراجعة نهجنا. عار أن يبقى هؤلاء كالقطعان الهائجة بين ظهرانينا، ويمنحون شرعية الوجود والاستمرار.
عبد الرحيم خليفة
كاتب سوري