على وقع أنباء وصول بايدن للمنطقة وعقد قمة في مدينة «جدة» السعودية، تعقب مباشرةً موسم الحج، ليلتقي بأكثر من أربعين مسؤولاً من قادة دولها- وتغيب عنه إسرائيل مع حضور شبحها- بهدف ترتيب أوضاعها بما يتوافق مع الخطوات الأميركية القادمة بمواجهة روسيا والصين، على جميع الصعد، فضلاً عن ضمان أمن إسرائيل بعد الرعاية الأميركية المديدة للاستبداد، وتحطيم آمال شعوب المنطقة بالحرية والاستقلال، الأمر الذي أوصل لهذا الدرك من التطبيع مع الكيان الغاصب في فلسطين، يأتي هذا اللقاء- بدون شك- تحضير لأمر هام وعظيم جداً قادم، أقلهُ تداعيات توقف مفاوضات ڤيينا وضرورات استئنافها غربياً وإيرانياً على حدٍ سواء، متوافق مع الحراك شبه اليومي، السياسي والدبلوماسي، بين قادة وسياسيي المنطقة العربية والشرق أوسطية ككل؛ في هذه الأجواء يستميت الاتحاد الأوربي- كواجهة لأميركا والأمم المتحدة- لإعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني الأمريكي؛ مثلما يستميت ما يسمى أعضاء اللجنة الدستورية السورية- غير الشرعية- بإلهاء الشعب السوري والاستمرار بمسارٍ ميت، ذلك وسط تكهنات لكثير من المراقبين والمحللين السياسيين بشأن «صيف ملتهب» ينتظر المنطقة، كلها متشائمة، بيد أن الباب يبقى مفتوحاً لأنباءٍ سارة.
فما تشهده مفاوضات ڤيينا حول برنامج إيران النووي، من انسدادات، وتوقف مفاوضات منذ عدة أشهر، مع اتهامات وتهديدات نسفت التصريحات المتفائلة التي انتعشت مطلع العام، وإسرائيل تقف متوعدة بالتصرف منفردة ضد إيران، باتفاق أو من دونه، فيما حربها على المنشآت والعلماء والقادة الأمنيين الإيرانيين، لا تكاد تتوقف؛ بيد أن الحاجة إلى النفط الإيراني لتعويض النفط الروسي بات عنصراً رئيسياً في اعتبارات جميع اللاعبين في مفاوضات ڤيينا، بمن فيهم روسيا، وذلك بعدما غيّر غزو أوكرانيا قوانين اللعبة، فإدارة بايدن تحتاج أسعار وقود تحتوي وتخفف أي غضب للناخب الأميركي قبل تشرين الثاني/ نوفمبر القادم، لأن الأميركيين يحكمون على حكومتهم من خلال محطات البنزين، والحكومات الأوروبية في أشد الحاجة للنفط الإيراني وهي تضغط على واشنطن كي تتنازل، مشيرةً إلى أن أوروبا لبّت أميركا في اتخاذ قرار مقاطعة النفط والغاز الروسي.
وجاءت زيارة مسؤول السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي «جوزيف بوريل» إلى طهران مؤخراً، لبحث الجهود الهادفة لإحياء الاتفاق النووي المتوقفة منذ آذار/ مارس الماضي، مؤكداً أن «الدبلوماسية هي السبيل الوحيد للعودة إلى التنفيذ الكامل للاتفاق النووي الإيراني وخفض التوترات السائدة»، ففي العودة الإيرانية النفطية فوائد عديدة لأوروبا، أهمها النفطية، فأوروبا لا تعتبر إيران مصدر تهديد لها، ولذلك هي وأميركا على أهبة الاستعداد لإتمام الصفقة النووية النفطية معها.
جاء ذلك في وقتٍ يتزايد فيهِ عدد المسؤولين الإسرائيليين الذين يتولون مناصب أمنية حساسة والذين باتوا يؤيدون توقيع اتفاق نووي جديد بين القوى الكبرى الست وإيران، وفق تقرير نشرته صحيفة ’’يديعوت أحرونوت‘‘ الصهيونية ممهدةً لنجاح مهمة 'بوريل'، ومما جاء بالتقرير أنه خلافاً للسياسة الرسمية الإسرائيلية المعلنة ضد إحياء أميركا للاتفاق النووي، هناك تزايد لعدد مسؤولي الجيش الصهيوني الذين باتوا يفضلون ’’اتفاقاً ولو كان سيئاً‘‘ مع طهران على عدم التوصل إلى أي اتفاق معها! وأن «هؤلاء المسؤولين الصهاينة يعتقدون أن مثل هذا الاتفاق سيمنح إسرائيل مهلة زمنية لإعداد خيار عسكري حقيقي ضد إيران»، وإن من بين أبرز مؤيدي هذا الموقف مؤخراً، رئيس قسم الاستخبارات، ورئيس قسم الأبحاث، ورئيس قسم التخطيط الاستراتيجي، ورئيس قسم الشؤون الإيرانية، علماً أن هذا الأخير كان معارضاً لأي اتفاق نووي مع إيران قبل أن يغير موقفه مؤخراً، وأن قسم الاستخبارات في الجيش الإسرائيلي رصد أيضاً تغييراً بموقف وزير الدفاع الإسرائيلي، الذي بات يعتقد أن اتفاقاً نووياً مع إيران هو الخيار الأقل سوءاً بالنسبة لإسرائيل، فهل يمثل هذا تغيرًا حقيقيًا أم أنه التزام بنفس الخطة الممنهجة المشتركة مع إيران وأميركا؟؟
كما أن الصين تستفيد تماماً من صفقة ڤيينا بالذات لجهة تدفّق النفط الإيراني إليها، كما أن روسيا لا تعارض، بل إنها ترى أن موافقتها على تمرير الصفقة الغربية- الإيرانية، بالرغم من أضرارها النفطية والاقتصادية، تعيدُ بعض الاعتبار لـ'بوتين' كلاعب دولي وتكسر بذلك عزلة روسيا؛ أما إيران، فإنها تبدو جاهزة لترتيبات مرحلية ومؤقتة تضمن لها رفع العقوبات عنها لتيسير مبيعاتها النفطية وإنقاذ اقتصادها وإسكات غضب شارعها المنتفض، ولذلك فإنها تُلمّح إلى أنها قد تكون جاهزة لتأجيل البتّ بإصرارها على شطب ما يسمى ’’الحرس الثوري‘‘ عن قائمة الإرهاب ضمن رزمة تفاهمات بمراحل، تعطي الأولوية للنفط والاقتصاد لكن دون التخلّي عن محورية عقيدتها ومركزية «حرسها» فيه.
كما أن إدارة بايدن العرجاء- وغير المتوازنة كرئيسها- ترى أن العودة الإيرانية إلى أسواق النفط ستؤدّي بالدول الخليجية إلى القبول بمطالب أميركا النفطية والعسكرية والأمنية فضلاً عن السياسية، وهي المنشغلة بالطبع بالدرجة الأولى بالحرب الأوكرانية- التي ستطول- وبتطويق روسيا، لكن إدارة بايدن تتحرّك خليجياً على أكثر من صعيد، وهي تتهيّأ للصفقة النووية/ النفطية، وطهران على أهبة الاستعداد وهي مبتسمة للتعاطي مع أي سيناريو وإن كان بقيادة إسرائيلية.
وفي ظل منسوب عند هذا المستوى والحدود الراهنة للمواجهة، يصعب التنبؤ بانزلاق لصيفٍ ملتهب، أو قبول نبوءات متشائمة من دون تحفظ، لكن مخاوف المراقبين والمحللين تذهب لأبعد من ذلك عبر مسارين وكسر معادلات وقواعد الاشتباك؛ الأول مع لبنان، فأي مواجهة محدودة أو سوء تقدير، أو انسداد في مفاوضات ترسيم الحدود البحرية، يمكن أن يفضي إلى حرب شاملة بين إسرائيل وحزب إيران في لبنان، ويمكن أن تفضي هذه الحرب إلى تسخين جبهات وخطوط تماس أخرى، من فلسطين إلى الجولان وصولاً للعراق؛ الثاني مع إيران، كأن تتوجه الطائرات الإسرائيلية لتنفيذ هجمات مباشرة بالعمق الإيراني، مُلحقة ضرراً فادحاً بالمنشآت النووية الإيرانية، عندها ستصبح شعارات ووعود نظام إيران، وصدقيته بأكملها على محكٍ خطير، وعندها يصبح الرد الإيراني المباشر على إسرائيل ضرورة لبقاء النظام، وقدرته على الاستمرار؛ وسيناريو كهذا يمكن أن يفتح باب الجحيم، ليس على الطرفين المتحاربين فحسب، بل على دول أخرى عديدة.
من دون الإنزلاق إلى أي من هاتين الحفرتين، ستشهد المنطقة، صيفاً مختلفاً بحرارة مرتفعة بلا شك، مع خوف شعوب المنطقة المزمن من متلازمة الاستبداد والقهر، وإرهاب غذائي امبراطوري يستخدم حرب أوكرانيا، لجعله يبدو أمراً موضوعياً غيرَ مفتعل، والتي تئنُ معه مرضاً بـ«الكوليرا والحمى النزفية والكورونا بشكلٍ خاص» فضلاً عن الفقر والجوع والمرض، بيد أنه لن يكون صيفاً لاهباً ولا حارقاً، وليس ثمة ما يشي بأن طريق الدبلوماسية قد سُدّ تماماً، سواء أمام الاتفاق النووي بين إيران والمجتمع الدولي، أو مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل؛ لكنَ مرور الوقت، لا يعمل لصالح الدبلوماسية، بل يُسهم في رفع منسوب الصخب والضجيج الناجمين عن قرع طبول المواجهة؛ إنه سباق «ربع الساعة الأخيرة» بين الحرب والدبلوماسية على وقع الاستعصاء المطبق في كل المنطقة؛ ومشكلتنا كسوريين وعرباً مع إيران هي نفسها مشكلة الشعب الإيراني مع دولته، وهي أن دافعها العصبية القومية بغلاف ديني للتوسّع في ما لا يعنيها، وإنفاق مبالغ طائلة على ما لا يعنيها أيضاً في الوقت الذي يتضوّر شعبها فقراً، ومشكلتنا معها هي المشكلة مع أي نظام ديني لا يختلف عن إسرائيل مهما رفع من شعارات.
عبدالباسط حمودة
كاتب سوري