العدالة الانتقالية شرط لازم للعبور 


 

"إن السلام لا يتحقق وحده بمجرّد إسكات صوت البنادق أو توّقف جرائم الانتهاكات، بل ينبغي الاعتراف بالمعاناة التي تكبّدها الضحايا وإعادة الثقة بمؤسسات الدولة وقوات إنفاذ القانون." 

هذا ما جاء على لسان المفوضة السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة (ميشيل باشيليت) خلال تقديمها إحاطة حول السلام والحفاظ عليه أمام مجلس الأمن في شباط/فبراير 2020، مؤكدة على ضرورة توفير الآليات القضائية وغير القضائية لتحقيق العدالة الانتقالية، والقيام بمبادرات بخصوص الملاحقة القضائية والجبر وتقصي الحقائق والإصلاح المؤسسي بما يتوافق مع المعايير والالتزامات القانونية الدولية.

إحاطة المفوضة السامية لم تكن مخصصة لسورية فقط، بل لجميع المناطق في العالم التي تعرّضت لأحداث عنف وجرائم إبادة وتطهير عرقي أو طائفي، كما حدث في السودان والعراق وميانمار وجمهورية الكونغو الديمقراطية وغيرها من الدول، وكانت حصيلة ما أدلى به ممثلو الدول المشاركة في تلك الجلسة، بأنّ العدالة الانتقالية ليست هي الهدف النهائي وإنما المدخل لتحقيق السلام وضمان عدم تكرار هذه الحوادث الكارثية واجتثاث أنظمة عدم المساواة والتمييز والانقسامات المجتمعية وغيرها من الأسباب الرئيسة التي تؤدي إلى العنف وإدامة الصراع.

المجتمع الدولي وهيئاته والعالم كلّه يعرف بدقة الأسباب التي تؤدي إلى نشوب الصراعات والحروب الداخلية، ويعرف بدقّة أكبر كيفية تفادي تلك الكوارث ولديه مراكز بحثية أنتجت آلاف الدراسات ووضعتها بين أيدي أصحاب القرار، فماذا حصل؟ لا شيء! إذن هناك حلقة مفقودة تجعل من أمر تحقيق العدالة الانتقالية أشبه بالمستحيل، أو في أفضل حالاته عدالة منقوصة وتطال أفراداً قلائل فتتحول من "عدالة انتقالية" إلى "عدالة انتقائية" وهذا بدوره يؤجّج من الصراعات ولا ينهيها، ففي سورية مثلاً وإذا ما رغب المجتمع الدولي بتحقيق العدالة الانتقالية لابدّ من اتخاذ خطوات عملية تتمتع بالديمومة غير المنقطعة ـ أستطيع أن أختصرها بما يلي:

ـ تقديم اعتذار علني للشعب السوري من قبل النظام ورأس النظام، واستعداده الكامل لتحمل المسؤولية ووضع نفسه ونظامه تحت سلطة القانون الدولي.

ـ إطلاق سراح جميع معتقلي الرأي والمعتقلين تعسفيّاً من النساء والأطفال والرجال والشيوخ الذين تم اعتقالهم لمجرد انتمائهم المناطقي أو الديني.

ـ السماح لمنظمات حقوق الانسان المحلية والدولية بالدخول إلى مراكز الاعتقال والسجون لتقصي الحقائق.

ـ سحب السلاح من جميع الأطراف وطرد الميليشيات الأجنبية ونشر قوات دولية للحفاظ على الأمن.

ـ الكشف عن المقابر الجماعية وتقديم القوائم الاسمية لحصر أعداد الضحايا والمختفين قسرياً وتحديد الجهة المسؤولة عن تلك الانتهاكات.

ـ إطلاق العملية السياسية بتشكيل حكومة انتقالية ذات صلاحيات كاملة تنتهي بإجراء انتخابات رئاسية شفافة.

ـ العمل بشكل متزامن مع الخطوات السابقة على إعادة المهجرين قسرياً إلى مناطقهم وتعويضهم عن الخسائر الجسيمة التي تكبدوها ماديًّا ومعنويًا.

ـ تقديم المجرمين الذين ثبت ارتكابهم لجرائم القتل والتعذيب والاغتصاب إلى المحاكم المختصة، ومحاكمتهم بشكل علني وبحضور ممثلين عن أهالي الضحايا وممثلين عن منظمات حقوق الإنسان.

تلك الخطوات التي أرى وجوبها والتي لا يمكن تجاوزها والخوض في مفاوضات ماراثونية حول الدستور وشكل الدستور وطبيعة النظام القادم واسم الدولة ودين الدولة ولغة الدولة، كلّ ذلك يدخل في إطار التسويف وعدم جدية المجتمع الدولي في تحقيق العدالة، ومحاولة لكسب المزيد من الوقت ليصبح المؤقّت دائماً، وتضيع الحقوق وتموت الآمال في عيون الملايين المشرّدة، ويكبر جيل تمرّس على قسوة البرد والحرّ وقسوة المجتمع الدولي أكثر، ونفرت عيناه من مشهد البؤس الذي تفرضه شقوق الخيمة المهترئة والطين الذي يحاصرها كحمم هبطت من التلال كلّما أمطرت غيمة، ودموع تملأ المآقي لطفولة شاخت من هول المكان وهول القبح الذي نسجوه لحياتهم، أولئك المجتمعين بياقاتهم المنشّاة وربطات العنق القرمزية ليناقشوا السلال الأربع، وتمكين المرأة وحماية الأقليات وحقوق المثليين و و. فيما تكبر المأساة في المخيمات وفي العراء وحتى في المدن والأرياف القابعة تحت سطوة "البسطار والبندقية"، فتكبر الأحقاد في الصدور ككرة الثلج العمياء لتتدحرج على غير هدى لتأخذ كل ما يقف في وجهها، فيصبح المشهد أكثر تعقيداً وشراسة من كل ما سبق، وإذا بنا أمام مقتلة أخرى عنوانها "العدالة الانتقامية" وليس الإنتقالية ولا حتى الانتقائية، لندخل في دورة عنف دموية جديدة لا تبقي ولا تذر، فهل هذا ما يريده المجتمع الدولي كخاتمة لمسرحية "الأسد أو نحرق البلد"؟.

 

 

ياسر الحسيني 

كاتب وإعلامي سوري

Whatsapp