حين تحرّك العالم ضد العراق لشكوك بامتلاكه أسلحة الدمار الشامل، عَقَد العزم ليس فقط على تجريد العراق من الأسلحة المحظورة ووضعه بكامله تحت الرقابة والمطالبة بإثباتٍ مستحيل لامتلاكه أسلحة بيولوجية، بل عقد العزم على “تدجين” العراق ثم على تدميره وتلزيمه لإيران كونه تجرأ بالسعي نحو امتلاك أسلحة محظورة؛ لكن لإيران وضع مغاير، إنها ليست دولة عربية، وبالتالي فالتعامل مع امتلاكها أسلحة محظورة تطلّب “الاحتواء” وليس “التدجين” وقبول الابتزاز النووي بل ومكافأته، فقامت بترويض أوروبا والولايات المتحدة لينزلا عند إملاءاتها؛ أما الكيان الصهيوني- المشابه لإيران- فإنه لم يحصل فقط على مباركة الغرب والشرق لامتلاكه القنبلة النووية، بل أتى عبر فرنسا وأخواتهـا.
واليوم، فإن كلاً من إسرائيل وإيران دولة نووية، باختلاف النسبة، بالرغم من إعلان إسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا أنهم لن يسمحوا لإيران بامتلاك القنبلة النووية لكن الجميع يعرف أنها باتت دولة نووية، لذلك ترفض السماح للإشراف والتدقيق الدولي بكل منشآتها؛ وإن الإدارة الأميركية ترى بأن الصفقة النووية هي عالمية! يمكن تطويرها نحو خريطة طريق جديدة للعلاقات في المنطقة!، والمفاوضات والمقايضات والتموضعات في عملية إنشاء نظام أمني جديد يعني انخراط إيران في العملية، والانخراط يؤثّر في السلوك، بحسب التقويم الأميركي- الأوروبي كذلك الروسي إلى حدٍ ما.
عالم اليوم مأزومٌ اقتصادياً، متوتّر أمنيّاً، مرتبكٌ سياسياً، مجنون استراتيجيّاً لتصارع القوى ومناطق النفوذ، عالمٌ أكثر تلوّثاً بيئيّاً، ينذر بتحوُّل في الفيروسات، ويعاني من نقص غير مسبوق في مصادر الماء والطاقة والغذاء والوظائف والبضائع واضطراب في أسواق العملات والذهب والبيتكوين، فيه تضخّم ركوديّ لم تشهده أسواق البشرية منذ الحرب العالمية الثانية، ارتفعت فيه تكاليف الحياة اليومية ما بين 18 إلى 26% في غضون ستّة أشهر، أي منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، إنّه عالمٌ تعاني فيه الإدارة الأميركية أكبر “تخبط واضطراب وارتباك استراتيجي” بسبب سياسات إدارة بايدن الأيديولوجية، التي تتأرجح بين سياسات أعلنتها وتطبيقات مضادّة اضطرت إليها، فأطلقت فيه رصاصة الرحمة على انفرادها المطلق بإدارة العالم، أرادت فيه واشنطن معاقبة موسكو وبكين فأضرّت بحلفائها الأوروبيين وباقتصادها، وأرادت تحطيم عملة الروبل الروسية فأدّت سياستها الغبيّة لوصول الروبل إلى أفضل مستوياته؛ إنّه عالمٌ تستخدم فيه إيران عملاءها لتتمدّد أكثر في لبنان والعراق واليمن وغزّة وسورية مع الضغوط القاسية على اقتصادات هذه الدول، يضاف لها السودان وليبيا ومصر وتونس والأردن والصومال وجيبوتي.
في هذه الأجواء فإن الصفقة النووية باتت أقرب ما يكون إلى التبلور، منذ أن بدأت إدارة بايدن محادثات غير مباشرة بين الحين والآخر مع طهران، إنها على خطى أوباما، فلم يعترض بايدن يوماً على أيّ قرار لأوباما عندما كان نائبًا له طوال 8 سنوات، هذا الأوباما هو الذي تراجع في آب/ أغسطس من 2013 عن توجيه ضربة حاسمة للنظام السوري القاتل الذي كان في حالةٍ يرثى لها، وكان في هذه الحال إثر فشل الميليشيات الإيرانيّة في ردّ الهجمات التي كانت المعارضة الشعبيّة تشنها على معاقله في دمشق نفسها، فلجأ النظام وقتذاك إلى السلاح الكيمياوي في غوطتي دمشق في تحدٍّ مباشر لأوباما الذي حذره من تجاوز “الخطوط الحمر”، وفجأة، لم يعد أوباما يرى اللون الأحمر ولا آلاف الضحايا للنظام من أبناء الشعب السوري، فتراجع عن تنفيذ عملية عسكرية كانت كفيلة بإسقاط النظام الفئوي القاتل، الذي ليس سوى آلة قتل وتعذيب، ويشنّ حربًا شعواء على شعبـه.
تبيّن مع مرور الوقت أنّ إدارة أوباما كانت في مفاوضات سرّية مع ايران بشأن ملفّها النووي، وخشيت أن يتسبب إسقاط النظام السوري في إزعاج إيران ووقف المفاوضات؛ لقد استطاعت إيران، بممارستها الابتزاز، وقف العملية العسكرية الأميركيّة في سورية، واستطاعت بدعمٍ من بوتين إنقاذ بشّار أسد والسماح له بالبقاء في دمشق، إنه دليل على أنّ إدارة أوباما كانت تتمتع بسذاجة وغباء كبيرين، خصوصاً بعدما اعتبرت أنّ الملف النووي الإيراني يختزل كل أزمات الشرق الأوسط والخليج!؛ إذ بعد مرور عامين على استخدام السلاح الكيمياوي في غوطة دمشق وقتل الآلاف من السوريين، وقّعت إيران مع مجموعة (٥+١) الاتفاق النووي، وسمح لها ذلك بالحصول على المليارات من الدولارات موّلت بها ميليشياتها في المنطقة ومشاركتها الحرب على الشعب السوري، الأهمّ أنّ موقف باراك أوباما وإدارته- التي ما لبث أن استقال منها رجل يحترم نفسه هو وزير الدفاع “تشاك هيغل”- كشف لروسيا وإيران أنّ في استطاعتهما استباحة دول المنطقة والعالم، ودليل ذلك ذهاب الجيش الروسي عام 2014 لاحتلال شبه جزيرة القرم واستعادتها من أوكرانيا ولم يتحرّك العالم، فزادت شهيّة بوتين الذي ما لبث أن بعث بجيشه إلى سورية في خريف 2015 لمنع الانهيار الكامل للنظام الذي كان يتعرّض وقتذاك إلى ضغوط قويّة، وكان التهاون الأميركي مع إيران سبباً لدفع الحوثيين باتجاه السيطرة على صنعاء عام 2014 والتوسّع أكثر في مأرب، ولم تجد إيران في ظلّ الميوعة الأميركيّة مشكلة في التوسّع في سورية، خاصة في حماه ودير الزور وحلب ومحيطهما وفي الجنوب السوري فضلاً عن حمص! إضافة إلى أنها تقرر كل شيء في لبنـان!
يتكرّر مشهد التراجع الأميركي أمام إيران هذه الأيام في ظلّ الاندفاع نحو إعادة الحياة للاتفاق النووي، وهو الذي مزقه الرئيس ترامب عام 2018، ولا تجد إدارة بايدن مشكلة في صفقة أميركيّة- إيرانيّة من دون طرح سؤال في غاية البساطة: ما الذي ستفعله إيران بالأموال التي ستحصل عليها بهذه الصفقة الجديدة التي أسّس لها التساهل مع بشّار أسد لدى استخدامه السلاح الكيمياوي بحربه على الشعب السوري؟، الأكيد أن النظام الإيراني لن يستخدم هذه الأموال من أجل التخفيف من معاناة شعبه الذي يعيش أكثر من نصفه تحت خط الفقر، ويغيب عن بال إدارة بايدن أنّ “تصدير الثورة” مازال شريان الحياة بالنسبة للنظام الإيراني الذي يبدو همّه محصوراً بالحصول على المال بعد رفع العقوبات عنه، وليس ما يشير لاستعداد أميركي لتعلّم شيء من دروس الماضي، خصوصاً من التهاون مع إيران، وبالنهاية تبدو إدارة بايدن تكملة لإدارة أوباما؛ فمايزال استخدام النظام السوري للسلاح الكيمياوي وغياب الرد الأميركي مسايرةً لإيران، حجر الزاوية لدى إدارة أميركية ترفض استيعاب معنى ذلك وأبعاده، ترفض على وجه الخصوص، استيعاب معنى غياب الربط بين الاتفاق مع إيران وسلوكها خارج حدودها، وتحويلها العراق وسورية واليمن ولبنان لدول تدور في فلكها حتّى لو كان ثمن ذلك خلق تهديد مباشر لحلفائهـا بالخليج.
فهل تستطيع أميركا طمأنة حلفائها؟، إن اتفاقاً من النوع الذي تنوي إدارة بايدن توقيعه مع إيران لا يفيد في ذلك، لأنّه صفقة وليس اتفاقاً، وتتمة لما بدأ في عهد أوباما صيف 2013 لا أكثر ولا أقل؛ ونعرف أن واشنطن تبلدت تماماً أمام بكائيات السوريين وآلامهم، بل لم تعد ترغب بسماع الحجج القائلة بإمكانية إيقاف شيطان بوتين وهو ما يزال بعدُ في قمقمه عام 2016، لكن السوريين سيستمرون في قرع الباب ولن يخشوا الإشارة بوضوح لمن تواطأ مع بوتين وبشار وخامنئي، فضلاً عما هو مطلوب من عُمان وقطر في أنهما ليستا طرفاً في تسهيل الهيمنة الإيرانية على جغرافيا المنطقة؛ حيث تنظر الإدارة الأميركية إلى السياسة بالمنطقة انطلاقاً من استراتيجيتها الخاصة، والتي كانت تتركّز- قبل غزو أوكرانيا- على الصين، وتخفيف حضورها في منطقتنا لصالح “توريث” المنطقة لإسرائيل وإيران وتركيا ليتقاتلوا في ما بينهم ويهشّموا بعضهم، إذ من الصعب إيجاد توافق بين الدول الثلاث، سوى على إضعاف الدول العربية وشطب إمكانية إيجاد دولتها القومية؛ فهناك سياسات مختلفة لأميركا ودول المنطقة، فهل يمكن التوصل لسياسات جديدة تعزّز من دور هذه الدول لا سيما دول الخليج، وحل مشكلات اليمن وليبيا وسورية، وبما يعيد التوازن لعلاقات إيران وتركيا وإسرائيل في المنطقة العربيـة؟
إن تقلص فرص إعادة توازن الانقسامات بين الدول العربية، لأنها لم تتبنَ سياسات تحالفية بما يقوي موقعها بالمنطقة إزاء سياسات الدول العظمى، وخاصة الولايات المتحدة، والأسوأ من هذه الانقسامات خضوع دول المنطقة لإيران، ووجود شراكة تسيطر فيها إسرائيل على كل من الإمارات والبحرين، وغياب دور مصري جاد، وهذا الأخير لم يستطع تبنّي موقف صُلب تجاه سد النهضة في إثيوبيا، حيث تتحكّم الأخيرة في مياه النيل، ويشهد المغرب العربي انقسامات حادّة، بين المغرب والجزائر، وتونس مبتلاة بقيس سعيّد وحلمه في أن يصبح ديكتاتورياً رغم شدة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وليبيا خارج أي تأثير، كما سورية، والأردن ونظاما “رام الله وغزة” غير قادرين على فرض معادلة جديدة ضد إسرائيل، أو التخفيف من أخطار اتفاقيات أبراهام، وكذلك غير قادرين على التحالف في ما بينهما؛ إنه الضعف العربي الشديد، وغياب الدور المركزي، يعني أن مجال الرفض الجاد للسياسة الأميركية معدوماً مع استقطاب دول الخليج، بسبب أن روسيا والصين تتجهان نحو تشكيل معسكر عالمي، كما فعلت أميركا وأوروبا مع بدء غزو أوكرانيـا.
المشكلة الأكبر لدول المنطقة هي البرنامج النووي الإيراني تحديداً، وإمكانية نجاحه بإنتاج قنبلة نووية، لأنه سيقود لسباق تسلّح كبير في المنطقة، والعمل من أجل امتلاك قنابل نووية “عربية”، وربما تركية، وهناك السلاح النووي الإسرائيلي؛ وبالتالي، سيتعقد المشهد كثيراً، ولن يلقى رفضاً من روسيا والصين، بل تحالفاً واستثماراً ومساهمةً في صناعة برامج نووية جديدة وكذلك صواريخ باليستية؛ إن في مثل هذه الصفقة الوقحة قصر نظر وغباء لأن سماح واشنطن والعواصم الأوروبية بأن تستمر إيران في تحويل المنطقة لقاعدة عسكرية إيرانية، بصواريخ ومسيّرات، إنما يخدم الترويكا الصينية- الروسية- الإيرانية، ويقضي على سيادة دول المنطقة ويهدّد باندلاع حروب أهلية فيها، فأين الذكاء في المواقف الأميركية والأوروبية؟ ولماذا كل هذا الصمت العربي، وماذا عن دور وموقف الدول العربية عشية الاتفاق المرتقب؟ أهي في سباتٍ أم يَقِظَـة؟!
عبد الباسط حمودة
كاتب سوري