العصر الرقمي والمستقبل


 

"العصر الرقمي والعالم المتحول" كان عنوان ملتقى الأناضول السادس عشر، وهو ملتقى يضم منظمات مجتمع مدني تركية، مهتمة بالفكر والثقافة والتعليم، من ولايات شتى، اجتمعت تحت اسم اتحادية الأناضول.

والملتقى تقليد سنوي أشارك فيه منذ سبع سنوات، ففي كل عام، يتم اللقاء على مدار خمسة أيام، وتحت عنوان يهم المجتمع والإنسان، ويكون بمثابة خطة طريق لعام كامل، حيث تعمل كل اللجان المنبثقة من اتحادية الأناضول وخلال عام كامل وفق مقررات هذا الملتقى، حيث اللجان المتشابهة في المنظمات والجمعيات المشكلة للاتحاد مع بعضها وتضع خطة سنوية. 

 وهذه المرة كان مميزا، لأنه تناول قضية تتعلق بالمستقبل أكثر من الماضي. تخص شبابنا واطفالنا بالدرجة الأولى.  خاصة نحن الذين نعيش في هذه البقعة الجغرافية التي تضم عرقيات وإثنيات مختلفة وتملك تاريخاً وإرثاً مشتركاً. 

 الكلمة الافتتاحية للسيد تورغاي آلدمير رئيس اتحادية الأناضول، كانت بمثابة التمهيد لمنحى المحاضرات والندوات التي ستقام ووضع عناوين للأسئلة المهمة التي تنتظرنا وتنتظر شبابنا وأطفالنا أي مستقبلنا.

أسئلة مثل: ما هو التحول الرقمي؟ وما هي المفاهيم المتعلقة بالعملية الرقمية؟ وما هو الوجه الجديد للرقمنة؟ وعن الواقع الافتراضي وكيف يمكن أن نتعامل مع الحياة الرقمية؟ وعن مفهوم الرقمنة والمجتمع الخامس، علاقة الرقمنة والمجتمع المدني. وعن النشاط الرقمي ودور الاقتصاد الرقمي وأهميته وما هي الدولة الرقمية. ومناقشة المخاوف والمشاكل والتحديات، وعن قادة وأصحاب العالم الرقمي، ودور الأخلاق وقانون الأخلاق الرقمي وعن العقوبات والجزاء. وكذلك طبيعة العلاقة بين البشر والروبوتات وكيف يجب أن تكون؟ والحاجة الى التعليم الرقمي وماذا يجب أن تكون في المفردات والمناهج والكتب التعليمية. 

  

قلق وتطور 

 

 سمة المرحلة التي نعيشها ثنائية. فهي من جهة تشهد انعدام الأمن وعدم الاستقرار.  تتعدد وتتنوع فيها الأزمات وكذلك الحروب بالوكالة.  ومن ناحية أخرى، تتميز هذه المرحلة بالتطورات السريعة جداً، حيث نعيش مرحلة الثورة الصناعية الرابعة الكبرى على حد قول المفكر اللبناني مصطفى حجازي، والتي تتمثل بمرحلة التكنولوجيا والرقمنة والابتكارات، مما أكسبها سرعة غير مسبوقة يكاد المرء لا ينتبه لشيء حتى يغدو قديما بكلمة موجزة "تطور وقلق".

 لقد غيرت الابتكارات والتكنولوجيا التي تطورت بفضل البحث العلمي حياة الناس على مستوى غير عادي، أصبحت الحواسيب والهواتف المحمولة وأجهزة التلفزيون الذكية والألعاب الإلكترونية التفاعلية جزءاً لا يتجزأ من حياتنا. لقد تجاوزت التطبيقات القائمة على التكنولوجيا الفائقة الذكاء الاصطناعي والتعليم وتحليل البيانات ومعالجتها توقعات أكبر المتوقعين بالمستقبل. 

بات الطبيب والمهندس والفنان والاديب والمحامي والإعلامي والطالب والمدرس وحتى الميكانيكي والكهربائي والطباخ وغيرهم من المهنيين يعتمدون اعتماداً كاملاً على التكنولوجيا كلّ بحسب إمكانياته. 

لم تعد مصادر تجميع المعلومة عبر الحواس البشرية مباشرة إنما عبر وسيط وهو ما يعرف اليوم بعالم الرقمنة. وهذا جعل الفرد يبتعد عن الفرد. عن الحوار البشري. بفضل التقنية والتكنولوجيا.  لم تعد هناك فرصة للحوار المطول عبر المواصلات العادية. ولم تعد حاجة للسفر الطويل. وبات العالم الرقمي هو الوسيط. وهو وإن حقق سرعة كبيرة لكنه في ذات الوقت انتهك خصوصية الانسان. لم تعد هناك خصوصية. 

 

السرعة تمنع الرؤية 

 

في رواية فهرنهايت ٤٥١ وضمن حوار بطل الرواية مع شابة مراهقة غيرت من نمط حياته، تقول له "نحن في عصر السرعة، لذلك أعتقد أن المتسابقين محرمون من الاستمتاع على أطراف الطريق لأنهم مشغولون فقط بالفوز والوصول أولا". 

مع ان الرواية كتبت قبل خمسين أو ستين عاماً لكنها تجعلنا نفهم اليوم بشكل أفضل. فعصر السرعة تضاعف مع تطور التطبيقات وجائحة كوفيد عملت على حرق المراحل بحيث وصلنا إلى التعامل مع العالم الافتراضي بأسرع ما كان سيكون. 

 

نحو تعريف جديد للحياة والعلاقات.

 

مع هذا التغير، بدأت العلاقات مع الأشياء ومع البشر تتطور وتتغير. إذاً نحن في مرحلة إعادة تعريف علاقة الإنسان بالأشياء وعلاقة الأشياء به. مرحلة تحدي لا تكتفي بصراع الرزق، كما كان سابقا حيث كل تطور يقضي على مهن ما، ولكن بالمقابل كانت تظهر مهن أخرى. حين تم اختراع التلفاز تم القضاء على مهنة الحكواتي. وحين انتشرت أجهزة الفيديو قضت على صالات السينما واليوم شبكة الإنترنت تستوعب وتهضم وتسحق ولكن بالمقابل تمنح وظائف وفرص. 

الخطورة اليوم أن مرحلة الصراع بدأت تنتقل إلى صراع وجود في حال هيمنت على الإنسان وهذا ما استشرفته الأفلام والروايات والمحاضرات التي تتناول هذا الجانب.  

 

المجتمع الخامس والدولة الرقمية والأخلاق 

 

المفهوم الجديد للقوة يمكن أن نعبر عنه بالعبارة التالية (الدولة القوية هي ذات اقتصاد قوي وهذا يعني حتما أنك قوي في عالم الرقمنة).  ولكن هل يمكن بناء هذه القوة دون وجود مجتمع واع متفهم وقادر على احتواء النكسات والتغيرات السريعة دون أن ينهار؟

ما حدث من تطور وتقدم سريع جعلنا ندخل مايعرف بالمجتمع الخامس، ففي هذا المجتمع يتم الاعتماد بشكل كامل على البيانات الضخمة والتي يتم الحصول عليها من المجتمع ذاته. التغذية العكسية مهمة جدا. لها دور في إمداد الحركة. هذا المجتمع الرقمي سيكون أكبر تحدي للمجتمع المدني إن لم يقدر على مواكبته.

وهنا السؤال بأن المجتمع المدني الذي بات اليوم أكثر قوة، وبات رافدا مهما للقطاع الخاص والحكومي على كافة الصعد، ماذا سيكون مصيره مع عالم الرقمنة؟ يقول السيد تورغاي: " سيتغير هو أيضا لا شك، سيتغير مفهوم التطوع، وسيتغير مفهوم التنظيم، وحتى معالجة البيانات" ولكن التحدي هو في عملية الضبط، ما هو النظام للعلاقة بين الرقمنة والمجتمع المدني؟

عملية الضبط تقودنا الى الدولة الرقمية.  صحيح أن الرقمنة توفر فرص متكافئة للناس، حيث يمكن لأي شخص له فكرة أو مشروع أو منتج، حتى ولو كان في قرية جبلية، يمكن تسويقه للعالم كله بسهولة.  فانت لست بحاجة لان تكون في وادي السيليكون لكي تقوم بمابما ترغب. بالمقابل، رفعت كل الحواجز لنشر فكرك وقيمك الروحية والدينية، وهنا دور الأخلاق.

وهنا نقتبس من خاتمة كلمة السيد تورغاي الدمير: " فكما يقول أحدهم: نعم صحيح، فالصلاة خمس مرات في اليوم، لكن الأخلاق واجب على مدار الساعة ".

 فالأخلاق مفهوم لا يغطي الوقت فقط، ولكن يشمل كل آن في نفسه وفي كل مكان وفي كل زمان وفي كل شريحة يجب أن يكون لها اخلاق، وكلمه الاخلاق تدل على أن لا بد من وجود قانون للعالم الرقمي للردع عن ارتكاب الجرائم وحماية الخصوصيات.

 

اليوم من أجل المستقبل 

 

 الجيل القادم سيكون أكثر التصاقا بالرقمنة، وستكون علاقته أمتن وأقوى مع الروبوتات التي ستكون قريبا هي الشرطة في الشمال الصناعي، ولذلك هذا يتطلب منا جهداً مضاعفا للجلوس مع أطفالنا وشبابنا ومساعدتهم على الفصل بين الفائدة والإدمان، والتحذير من مخاطر التقنية التي تدمر الطبيعة البشرية، وهذا يتطلب استنفاراً من المجتمع المدني لأن المستقبل يخصه أكثر مما يخص الشركات أو الدول.

 

 

علاء الدين حسو 

كاتب وإعلامي سوري

Whatsapp