تتابعت سنوات الثورة السورية، وحرب النظام السوري على الشعب الثائر، وعاش خلالها ملايين اللاجئين السوريين في تركيا، عملوا ودرسوا وتعلموا اللغة، وكثير منهم يُعيلون ذويهم في سورية، ووُلد لهم مئات الآلاف من الأطفال السوريين على أرضها، لقد أثّروا بتركيا تأثيراً لا تخطئه العين، وتأثروا بها، أعطتهم الكثير، وقدّموا لها ما يمكنهم، وأصبح الضمير الجمعي للسوريين في تركيا يرى فيها الوطن الثاني، حتى إن بعضهم راح يتصرف ويفكر في تركيا على أنها وطنه، فهي تشبه سورية في كل شيء، إلا أنه هناك في بلادهم براميل تُلقى على رؤوس الأطفال، وعصابات وميلشيات طائفية تخيفهم، وتخفيهم، وتعذبهم حتى الموت، صحيح أنه قد تخلّل هذه السنوات حوادث صغيرة معزولة وأخرى كبيرة منظمة ومغرضة تزامنت مع ضغوط خارجية أو استحقاقات سياسية داخلية، كان الهدف منها ضرب وتخريب هذه العلاقة، لكنها فشلت في كل مرة بفضل التعامل الرسمي الحكيم معها والوعي الكبير الذي أبداه المجتمع وما يزال، لتمر تلك الموجات دون آثار تذكر ويبقى المشهد الذي جاء في السياق الطبيعي للتاريخ والجغرافيا.
وبين الدعوة إلى ترحيلهم، والتأكيد على بقائهم، يتصدّر اللاجئون السوريون في تركيا حديث المشهد الداخلي التركي، ذلك في تطورات سياسية واجتماعية ليست جديدة، لكنّها تأخذ منحى تصاعدي، ولافت أيضاً، من حيث التوقيت والغايات؛ وفي ظلّ هذه التطورات التركية تلك، يدفع اللاجئون السوريون الثمن من خلال انتهاكاتٍ يتعرضون لها بشكل شبه يومي لأسباب سياسية في الأغلب الأعم، لأن كثيراً من الأتراك يُحمّلون السوريين، ظلماً، مسؤولية الأزمات الاقتصادية وغلاء الأسعار والأوضاع المعيشية الصعبة.. الخ
فالسوريون، خاصة الشباب منهم، يعيشون في تركيا أوضاعاً غاية في الصعوبة، في ظلّ تهديدات يومية وبطالة وفقر، وهذا يضعهم بين فكّي كماشة: فإمّا البقاء في تركيا بمستقبل غامض وبظل تهديدات تصل للعنصرية أحياناً من البعض، وإمّا الرجوع إلى سورية ليُسجنوا ويُسحلوا ويُقتلوا على يد نظام استبدادي قاتل بتهمٍ عديدة تتعلق بمعارضة الاستبداد والدفاع عن أهداف وطموحات شعبهم في الحرية والكرامة، تتصل بمزاعم أخطرها الجاسوسية والإرهاب! وأقلها الهرب من الخدمة العسكرية!؛ فضلاً عن الآثار الاقتصادية السلبية لترحيلهم وغيابهم عن مواقع العمل والانتاج التركية.
تركيا التي رحّبت باللاجئين السوريين لأسباب إنسانية وتاريخية مشتركة، وفتحت لهم حدودها خاصّة بعد توقيع اتفاقية حولهم مع الاتحاد الأوروبي في آذار/ مارس 2016، لم تضع خططاً قادرة على تأمين مستقبل هؤلاء، لاسيّما في ظلّ عدم تعلم نصف الشباب السوريين الفارين من القتل المروع في بلادهم؛ فإنه، وحسب إحصاءات جمعية اللاجئين، يعيش في تركيا حوالي (3.7) مليون سوري، أكثر من (2.6) مليون منهم تقلّ أعمارهم عن (30) عاماً، وأكثر من مليون منهم دون سنّ الـ10، وقد جاؤوا إلى الحياة بعد اندلاع شرارة الثورة واسعة النطاق ضد نظام الجريمة والإرهاب في سورية عام 2011، ومن المقلق للأتراك أنّ عدد الشباب السوريين ينمو بسرعة، فقد قدّر تقرير للمؤسسة السياسية الألمانية «كونراد أديناور شتيفتونغ» أنّ ما يقرب من (500) طفل سوري يولدون في تركيا كلّ يوم، ولا تُمنح الجنسية لهؤلاء الأطفال حديثي الولادة في تركيا أو في سورية؛ الأمر الذي يحرمهم من الحصول على بطاقات الهوية، وهم بلا شك أكبر الضحايا!
وبعيداً عن تلك الوقائع الراهنة، فإن العلاقات التاريخية المتجذرة بين السوريين والأتراك تعني وبطبيعة الحال أنها متجددة وحيّة أيضاً، فنحن تشاركنا الأرض والتاريخ عبر مئات السنين، والتي سوف تنمو وتبقى إلى ما شاء الله رغم كل آلام الواقع، وقد علمّنا التاريخ أن الخيارات السياسية التي غذتها تدخلات خارجية غربية، أو تلك التي بُنيت على توجهات تمثل جزءاً من الهويّة دون المُركبات الأخرى للهويّة، لم تستطع أن تجسّر هذه المساحة والعمق المشترك بكل تجلياته التاريخية والثقافية والروحية، التي انعكست بطبيعة الحال في الميادين الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
فقد عشنا تاريخياً في سورية وتركيا على مدى مئات السنين ضمن كيان حضاري وسياسي واحد، ونتج عن هذا التداخل الواسع والتشابك بكافة النواحي، على طرفي الحدود، ثقافة واحدة متشابهة إلى حد بعيد، انعكست بالمزاج الشعبي والطعام والموسيقى والأزياء الشائعة؛ وهي ليست إلا تجليات لهذا التاريخ المشترك، وما حلقات التجاذب التي عرفتها العلاقات منذ الحرب العالمية الأولى وحتى اليوم، إلا لأن الحواجز السياسية التي أريد لها أن تُغرس بين البلدين، فشلت في أن تفصل بينهما على كافة الأصعدة الأخرى، وهي سقطت تماماً أمام اختبار الثورة السورية، التي لم تجد تركيا بدّاً من أن تكون في مكانها الطبيعي ودورها التاريخي إلى جانب الشعب السوري، وأن تستقبل تركيا، داخلها، وتحمي على حدودها نصف الشعب السوري تقريباً، وهم فقط من استطاع الوصول، فراراً من آلة الموت والدمار والبراميل المتفجرة التي هدّمت منازلهم فوق رؤوسهم.
وهكذا حين خذلَنا العالم، وقفت تركيا إلى جانب الشعب السوري وقواه في ميادين السياسة، وفي حماية ما استطاعت من المدنيين، وسخّرت إمكاناتها للتخفيف من المعاناة الإنسانية للملايين الآخرين، الذين التجأوا إلى المناطق المحررة المحاذية لها، وقد تحملت العديد من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية لقاء ذلك، كل هذا ولّد روابط جديدة، يضاف لما أسلفنا ذكره، بل إن هذه الوشائج التي لن تفصم بات لها تجليات لا تخطئها العين، وهو ما سيُمكّن قوى الثورة ودعاة المستقبل الحر الكريم للشعب السوري، من بناء مؤسساتهم وحماية حاضنة الثورة، وصولاً إلى الانتقال السياسي، وطي صفحة الاستبداد والديكتاتورية في كامل أرض سورية.
وإن مئات آلاف الطلبة في المدارس والجامعات التركية والتجار والعمال والصناعيين سيكونون جسور المستقبل بين الشعبين والبلدين، أجيالٌ تتقن اللغة العربية واللغة التركية أيضاً، وتتميز بأنها باتت تعرف مدى وعمق الأخوّة التاريخية وستكون ضمانة لها، مهما كادَ لها أصحاب النوايا السيئة تجاه شعبينا ومنطقتنا.
عبد الباسط حمودة
كاتب سوري