هناك مبدأ في علم الاجتماع ( تكلم عنه د- علي شريعتي في أحد كتبه) يسمى: تحول الحركة إلى نظام. حيث يؤدي وجود تناقضات مزمنة اجتماعية وسياسية واقتصادية وطبقية إلى نشوء مجموعة من الأفكار في المجتمع تتفاعل وتكبر وتتشابك في محاولة لتشكيل شبكة فكرية ومرجعية ثقافية اجتماعية تهدف إلى تغيير ذلك الوضع السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي الذي أحدث تلك التناقضات وأنتج واقعًا مزريًا بات من الصعب تحمله.
نتيجة لتجمع هذه الأفكار وتراكمها وتوظيفها باتجاه معين يتشكل مناخ اجتماعي جاهز لعملية التغيير بانتظار اللحظة المناسبة التي تشكل الشرارة التي تطلق عملية التغيير، وبمقدار عمق التناقضات وشدتها وطول مدتها يكون الاحتقان أكبر وتكون نقطة الانطلاق أكثر حدة فينجم عن ذلك انفجار مخزون تلك الأفكار بشكل مفاجئ والذي يترجم على أرض الواقع بشكل ثورة اجتماعية.
تتسع رقعة الثورة بما يتناسب مع زخم الأفكار المتراكمة وعمق التناقضات التي أنتجتها وحجم العينة الاجتماعية المتضررة من تلك التناقضات( فساد. ظلم اجتماعي. استبداد. استغلال. وضع اقتصادي سيء جدًا. تمايز طبقي أو ديني أو طائفي. الخ) وتقترب من تدمير الوضع القائم ( والذي يكون عادة منظمًا) وهنا بالتحديد تأتي النقطة الفارقة والمفصل الأهم في مسار الثورة وحركة التغيير. إذا نجحت القوى الثائرة بتحويل الحركة إلى نظام يمكن وقتها استثمار كل التضحيات والأفكار والإنجازات التي أحدثتها الثورة في إنتاج واقع جديد يهدم سابقه ويستولي على مواقعه ويعيد تشكيل الهيكل الجديد بما يتناسب مع طموحات وأهداف الثورة ، أما إذا فشلت الثورة في تحويل الحركة إلى نظام فإنها على الأغلب لن تصمد أمام النظام القائم سابقًا والذي سيستغل الفرصة ويلتف على نتائج الثورة ويستعيد المبادرة ويمسك من جديد بخيوط اللعبة مستفيدًا من أخطائه السابقة ومصححًا لبعض التناقضات التي أنتجت الثورة ولو بشكل ظاهري ومؤقت.
لا يمكن للأفكار والأدوات التي بدأت بها الثورة وانتشرت أن تستخدم نفسها من أجل تكوين نظام جديد واستقراره، ذلك أن الثورة في عمقها عملية هدم (للبناء القديم)، أما النظام فتشييد (لبناء جديد). في حال الثورة أنت في قلوب الناس، أما في حال النظام فأنت قيد لحركتهم وأحيانًا صخرة على ظهورهم، لذلك فإن الأساليب والأفكار( وأحيانًا الأشخاص) التي تنفع في إحداث الحركة تختلف عن تلك التي تنفع بتحويل الحركة إلى نظام.
هذا الكلام موجه في الدرجة الأولى لقادة حركة التغيير لعلهم يدركون أن الكوادر والأساليب والأفكار التي ساعدتهم في بدء الثورة لن تنفعهم على الأغلب في تحقيق النظام وترسيخ قواعد الدولة الجديدة أو النظام الجديد، وموجه في الدرجة الثانية للقواعد الشعبية التي كانت وقود الثورة لكي تدرك أن التغيير في سلوك القادة وطروحاتهم وخطاباتهم وأفكارهم وتحالفاتهم في مرحلة تكوين النظام قد يكون لها ما يبررها لتفويت الفرصة على النظام القديم في اختراق صفوف الثورة وبعثرتها وإحداث الفوضى فيها لكي يستعيد زمام المبادرة والسيطرة من جديد، وأن الخطاب والمفردات والسلوك والتكتيك الذي أنتج الثورة وحركها لا يصلح لوحده من أجل إحلال النظام، وعلى كلا الفئتين أن يفهموا أن التحول من الحركة إلى النظام بحاجة إلى وقت وصبر استراتيجي وتقديم بعض التنازلات فيما يتعلق بالنموذج الذي سعت نحوه الثورة أو التغيير.
الثورة تغيير جذري ولكن ليس آنيًا ، وما يصلح لإحداث ثورة قد يكون ذاته المانع لتحويلها إلى نظام والسبب في فشلها.
د معتز محمد زين
كاتب وطبيب سوري