باتَ الكذبُ مع الحقبة الأسدية أكثر ازدهاراً في سورية، وأكثر ترسخاً وتنامياً وانتشاراً، وصارت حقائقُ الكذب أقوى من الحقائق الصادقة؛ فالكذبُ دينٌ أسديٌ بفقهٍ سياسي ونفاقٍ ملائم، وبخطابٍ متعدد متلون ومتناقض بشكل مفزع، مفتوحٌ على “علاكلوجيا” ومنازلة كلامية وسياسية فارغة، لدى “أبواق” تلكم الحقبة- التي لما تنتهي بعد- قدرة اختراعٍ لمعتقداتٍ جديدة ورخيصة، في السياسة والاقتصاد والاجتماع السياسي وابتذال حقوق الإنسان، سُمح لهم الكذب، ثم الكذب، واستمراء الكذب، حتى يُصدّق الكَذبَةُ كذبتهـم.
فمازالت حرب الإبادة التي يمارسها جيش الإرهاب الأسدي وميليشياته في سورية مستمرة منذ 1970، وبات الجميع يتكلم بها بعد أن فكت ثورة 2011 يباسَ شفاههم، والتي كان الكلام بجرائمه موضوع “تابو” لا يتكلم حوله أحد، خاصة حكومات أدعياء حقوق الإنسان في الغرب والشرق على السواء، أما اليوم فهناك شبه إجماع دولي- بازدواجية معايير أيضاً- على أن الجيش الأسدي وعصاباته كانوا متورطين وبقوة في حرب إبادةٍ مستمرة.
إن مسألة حقوق الإنسان تتغذى من قضية الحرية، ومن النضال لتحقيق أهداف ثورات الشعوب لتحرير الإنسان من ربقة الاعتقال السياسي والجسدي على السواء؛ فكيف يكون الأمر عند استفحال المجاعة التي لم تعد تطاق؟ فكم أكل بعض المعتقلين لحم زملاءهم الموتى بأيدي جلاديهم الأسديين! ألم يقم جلاوزة النظام بقتل المعتقلين بمزاعم تخليصهم من عذاباتهم؟ ويجبرونهم على تناول براز بعضهم- حسب روايات الكثيرين- في سجني تدمر وصيدنايا الرهيبيّن؟ ألم يؤدي ذلك- عبر عقود- لتفاقم الأمراض وانتشار الأوبئة التي ساهمت مع الجوع والإفراط بالتعذيب وأساليبه الرهيبة وانعدام الدواء والطبابة لمصرع الملايين وموتهم؟ فكيف يمكن النظر للصمت العربي والدولي على تلكم الجرائم، وعدم محاسبة القتلة ومساءلتهم، ومحاولات الهروب من المحاسبة التي طالت ولازالت تطول؟!
فهل تكون الذكرى الـ 74 للإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تصادف 10 كانون الأول/ ديسمبر الحالي، مناسبة جديدة وجدية، لصناعة رأي عام يدفع باتجاه محاسبة القتلة والمجرمين في سورية، وإحالتهم لمحاكم دولية عادلة؟ ألم تكن الإعدامات بالجملة والمفرق التي قام بها نظام “هتلر” الألماني النازي سبباً لمحاكمات “نورنبرغ” قبل 77 عاماً وبداية لعهد جديد في التشريع القانوني والتعاون الدولي في 8 آب/ أغسطس 1945 والتي كانت نتائجها أساساً للميثاق العالمي لحقوق الإنسان عام 1947؟ فكيف يمكن جعل الاهتمام أكبر بإحالة مرتكبي جرائم القتل والتجويع والتشريد في سورية ومحاكمتهم كما جرى في محاكمات “نورنبرغ” المعروفة؟ أم كان الهدف فقط الاهتمام باليهود وتركيز الأنظار عليهم لاغتصاب فلسطين وطرد أهلها بالنهاية، وهو الأمر الذي تم بمعايير مزدوجة مكشوفة؟!
لقد كان العالم كله بعد الحرب العالمية الثانية يكره القادة النازيين المهزومين كراهيةً لا حدود لها، وحين بدأت الدول المنتصرة في الحرب محاكمتهم على جرائمهم، في محاكمات “نورنبرغ”، كان سهلاً جداً أن يحكموا بإعدامهم جميعاً وبأبشع الطرق التي عرفها البشر، ولم يكن لأحد أن يعترض على ذلك، لأن العالم أجمع سمع بجرائمهم حينها أو شاهد من كان يئنّ من جرائمهم؛ فكيف وكل جرائم النظام الأسدي تمت عبر عقود، ومازالت تتم، تحت الأضواء الكاشفة والأقمار الصناعية وعدادُ القتلِ مستمراً بإحصاء جرائمه، تحت سمع ونظر وعلم كل الجهات التي تزعم السهر على تنفيذ بنود ومواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟ فلماذا كان هذا الإهمال لحيواتنا وحقوقنا، وغض النظر عن معاناة ومأساة شعبنا، فضلاً عن التضحية بمبادئ حقوق الإنسان السامية نفسها رغم توفر الوثائق الدامغة؟
يبدو أن محاكمات “نورنبرغ” كانت إكراماً لعيون العصابات الصهيونية بإشراف الدول المنتصرة، وأن غض النظر عن جرائم العصابة الأسدية رغم كشف تلكم الجرائم علناً إثر ثورة 2011 كانت أيضاً إكراماً لعيون نفس العصابات الصهيونية الغاصبة لفلسطين، كون هذه العصابات قد سخّرت العصابة الأسدية لخدمتها وخدمة مشروعها للقضاء على أي أمل للنهوض العربي، فكما كانت محاكمات “نورنبرغ” مواكبة لضياع فلسطين، فإن الرعاية الصهيونية والغربية كانت خلف منع أية محاكمات دولية لنظام الإجرام الأسدي، ضماناً لإضعاف سورية والنيل من كبريائها بالتغطية على جرائم تلكم العصابة الطويلة والمديدة.
لقد تم كشف كل طرق القتل والتعذيب والتخلص من جثث القتلى في السجون والمستشفيات السورية، الأمر الذي يفترض تسريع ملف المحاسبة وإحقاق العدل، وما جرى هو العكس! مزيدٌ من الانتظار وتعفن المسألة رغم ثبوت الدلائل وتوفر عديد الشهود، فما هي الأسباب والموجبات؟ لقد أصبحت المستشفيات المدنية، فضلاً عن العسكرية، والفروع الأمنية عبارة عن مستودعات لتجميع الجثث، لنساءٍ وأطفالٍ- ذكوراً وإناثًا - فوق بعضهم معاً، ليتم إفراغها عبر برادات نقل، للدفن بشكل جماعي بأوقات محددة وثابتة، بإشراف ضباط الأمن وجلاوزة النظام المجرم، خاصةً منذ عام 2011 وحتى هذه الأيام، وكل عملية دفن كانت تبدأ قرابة (الساعة 4 وتنتهي قرابة الـ 9) صباحاً وعلى مدار أيام الأسبوع؛ وكل تأخير بمحاكمة المجرمين وأعوانهم يعتبر مساعدة للقتلة، وتعاون تام معهم مهما كانت التبريرات، وإن المقابر الجماعية تحيطُ بدمشق وريفها وجميع المدن السورية، والضحايا تُقدر بالملايين جمعت من الأفرع الأمنية: فرع فلسطين وفرع الأربعين وأمن الدولة وفرع الـ227 بدمشق مثلاً، وهكذا باقي الفروع الأمنية بالمدن السورية، إضافة للمستشفيات التي تم نقل الجثث منها: مشافي حرستا وتشرين العسكريين- والأخير يتضمن جثث مشفى المزة العسكري 601- والمواساة والمجتهد المدنيين؛ إذ لا يقومون فقط باستقبال الجثث من الأفرع الأمنية، بل تتم عمليات القتل للمعتقلين داخل المشفى أيضاً، ويتم دفنهم بشكل جماعي مع الجثث الواردة من السجون مثل سجن صيدنايا وعدرا وحلب المركزيين .. الخ.
إن معالجة هذه القضية الشائكة لا تتم إلا بإحقاق الحق للمظلومين والقتلى من السوريين والمعذبين ولذويهم من أولياء الدم، بالمباشرة بالعدالة الانتقالية والمحاسبة والمساءلة، التي بدونها لن تكون هناك أي قيمة لجميع الدساتير والمواد الحقوقية الدولية وشعاراتها البراقة؛ ويجب أن يلعب القانون الدولي، وبشكل متزايد، دوراً في صياغة سياسات الدول، فضلاً عن القانون المحلي لتعزيز حماية حقوق الإنسان، وهناك تقدم ملحوظ بالقانون الجنائي الدولي، الهام بهذا المجال، بتأكيده على المسؤولية الجنائية للفرد، وقد ظل التقدم في مجال العدالة الجنائية الدولية خاملاً طيلة 50 عاماً بعد محاكمات “نورنبرغ” و“طوكيو” عام 1945، لكن المشهد تحول سريعاً عقب إنشاء المحكمة الجنائية الدولية لـ“يوغوسلافيا” عام 1993، والمحكمة الجنائية الدولية لـ“رواندا” عام 1994 وإنشاء محاكم دولية خاصة في “تيمور الشرقية”، و“كوسوفو”، و“سيراليون”، و“كمبوديا”، ومحكمتي “العراق” و“لبنان”.
فالمحكمة الجنائية الدولية هي أول هيئة قضائية دولية تحظى بولاية عالمية، بزمن غير محدد، لمحاكمة مجرمي الحرب ومنتهكي حقوق الإنسان وجرائم الإبادة؛ والدول العربية- عدا 4 منها- ليست الوحيدة التي لم تنضم إليها فهناك الصين والهند وأميركا وروسيا، التي تمتنع عن التوقيع على ميثاق المحكمة، وذلك لأسباب متعددة، والمهم هنا أن حركة حقوق الإنسان العالمية تضغط باتجاه تنفيذ مبادئ “نورنبرغ” بشكل منهجي، ومجلس الأمن الدولي يستطيع بأي وقت، إصدار قرار يطلب من المحكمة الدولية النظر في قضية معينة أو محاكمة مسؤول في أي دولة، حتى لو لم تكن تلك الدولة قد اعتمدت ميثاق المحكمة الجنائية الدولية ومنها سورية؛ فهل من أمل لقضيتنا السورية بظل التبلد الدولي والعربي المقيم؟
ما نشهده قد يكون بداية لعهد جديد تنفتح عليه الإنسانية، عهدٌ يرفض الإفلات من العقاب لأي شخص ينتهك حقوق الإنسان، ومع أن المسيرة طويلة ومعقدة، لكن الجهود حثيثة ومستمرة لمنظمات وهيئات حقوق الإنسان الوطنية، وخلف هذه الجهود فإن حركة حقوق الإنسان العالمية لن يهدأ لها بال مادام هناك مُنتهكون لحقوق الإنسان، فمعركة اليوم تبدأ مع ملف حقوق الإنسان لأنه حساس للدول التي تتجاهل هذه الحقوق، وبالتالي يتحوّل الصراع بين من يمسك بزمام السلطة الذي يحمي المُنتهكين، وبين من يوثق ويلاحق منتهكي حقوق الإنسان، شريطة متابعة أبناء القضية لحقوقهم بلا هوادة ودون توقف، مع البدء بتأسيس مجتمع العدالة الانتقالية، تمهيداً للمحاسبة والملاحقة القضائية لمرتكبي الانتهاك قضائياً، وطنياً ودولياً، وكي تكون سورية لشعبها وليست وليمة للنظام وأعوانه المجرمين.
عبد الباسط حمودة
كاتب سوري