المونديال فرصة للكرة كي تركل اللاعبين



لم تتح لي سنوات الثورة أن أتابع أي مهرجان كروي أو حتى أي نشاط رياضي سوى النشاطات الرياضية التي تتعلق بالثورة وتوظيفها في رفع الهمم وإثبات قدرات الشباب السوري بعيداً عن قبضة النظام الإجرامي الذي كان يسحق شبابنا ببطء ولؤم ويبدّد مهاراتهم ومواهبهم في دهاليز المحسوبيات والواسطة لتبقى تلك المواهب على مقاعد الاحتياط أو على مدرجات المتفرجين، وإذا ما بدر من أحدهم نيّة الامتعاض أو الاعتراض كان مصيره كمصير الفارس عدنان قصار الذي زاحم باسل الأسد على المركز الأول في الفروسية فدفع الثمن إحدى وعشرين سنة في السجن، ومن يومها لم يجرؤ أحد على الاقتراب من أي شيء يحمل صفة "الأول"، فهي حكراً على بيت الأسد من الأب حافظ إلى أصغر واحد أو واحدة من تلك العائلة، فكان حافظ هو القاضي الأول والمهندس الأول والعسكري الأول والسياسي الأول وقبلها جميعاً كان يحمل صفة "المناضل الأول"... ثم تطورت الحالة مع جيل الحرس الجديد وأبنائهم فكانت الفارسة شام الأسد ابنة المجرم قائد الفرقة الرابعة ماهر حافظ الأسد التي حازت على المركزين الأول والثاني في الفروسية!

مونديال قطر الحالي كان المناسبة الأولى التي حظيت باهتمامي من خلال "السوشيال ميديا" أكثر من المباريات نفسها وهالني حجم الاهتمام وعمق الانتقادات وتصيّد الهفوات والنهفات التي عجّت بها وسائل التواصل المختلفة، وكنت نهماً جداً لقراءة التعليقات والردود على التغريدات والمنشورات التي تعكس بشكل قوي المزاج العام السائد في عالمنا العربي من أقصاه إلى أقصاه، وأستطيع الآن وبلا تردد أن أعلن عن مدى سعادتي بهذا التفاعل المذهل من شتى شرائح المجتمع العربي على اختلاف بيئته ومشاربه وقدرته على مناقشة مسائل كبرى على مستوى الهوية والثقافة المجتمعية والثوابت العقدية والفكرية التي لطالما ظنّ الغرب بأنّه استطاع مصادرتها أو تمييعها.
منذ مؤتمر كامبل 1905 وعالمنا العربي تحول إلى "كرة قدم" بقرار من الغرب الذي كانت تتزعمه بريطانيا ويبدو أنها ما تزال، فجاء وعد بلفور  1917 على أعتاب اتفاق سايكس بيكو كإطلاق صافرة الحكم معلناً بداية المباراة وكنّا نحن الكرة التي يركلونها على مدى قرن كامل وأزيد، هي اللعبة الأطول خلال تاريخ الحرب الصليبية التي بدأت منذ ألف عام، كانت نتيجتها القتل والتشريد ودمار البلدان ونهب الثروات من أجل إيصالنا إلى نقطة التسليم بقضاء الغرب الصهيوني وقدره، ولكن الذي حصل هو العكس تماماً وقد تجلّى ذلك بوضوح شديد في مونديال قطر، فلا المثلية استطاعت أن تجد لها موطئ قدم رغم الضغوط الرهيبة من دول الغرب على الفيفا والدولة المضيفة، ولا الخمور وجدت لها طريقاً إلى مدرجات الدوحة رغم وجود عقد مبرم مع الفيفا وقامت دولة قطر بدفع قيمة الشرط الجزائي لتنتهي تلك القضية.
ما هو أهم من ذلك هو تبخّر الحدود التي رسمها الغرب منذ مئة عام وظنّ بأنّ الحروب التي شنّها خلال تلك الفترة وبثّ الفرقة بين الشعوب العربية وافتعال الحروب البينية وإظهارها على أنها حروب أهلية، كلّ ذلك ضاع سدى في مباراة واحدة من مباريات المونديال إذا كان أحد الفريقين عربياً، ولسوء طالعهم فهناك أربعة منتخبات عربية تلهب مشاعر الملايين من المحيط إلى الخليج يومياً ولا تترك فرصة لتلك الملايين أن يهدأوا.
قناة تلفزيونية إسرائيلية حضرت المونديال علّها تجد قبولاً من الجمهور بعد موجة التطبيع ولكنها صدمت من ردة فعل المشجعين حالما يعلمون أن القناة إسرائيلية، وعلّق المراسل وهو يخاطب المذيعة في استوديو القناة بتل أبيب بأنه مستاء وحزين لأنه لم يستطع إجراء أية مقابلة قائلاً " إنهم يرفضون الحديث معي. إنهم لا يريدوننا".
الكيان الغاصب ووراءه الغرب الاستعماري استطاعوا انتزاع التطبيع مع الحكام ولكنّهم لن يستطيعوا تحقيق ذلك مع الشعب العربي وقد أدركوا ذلك في أول مناسبة غير سياسية بشكل لا لبس فيه.

هذه المرة تلعب الفرق العربية على أرضها وبين جمهورها، فالمنتخب التونسي يشعر بذلك والمنتخب السعودي وكذلك المغربي وليس القطري وحده، وجمهور المشجعين لم يعد مقتصراً على فريق واحد فالجمهور القطري يعود للملاعب ليشجع المنتخب التونسي والسعودي والمغربي بذات الحماسة. إنّه الدم العربي الذي يسري في عروق ثلاث مئة مليون تحاصره حدود وهمية رسمها المستعمر وقيّدته جوازات السفر والفيزا ولكن في اللحظة التي تهزّ الكرة شباك الخصم تزول الأسلاك الشائكة ولا يبقى حدود.

 

ياسر الحسيني

كاتب سوري

Whatsapp