لم تكن سنوات إشراق السبع في ذاكرتنا "المرتبكة" إلّا جزئاً مهماً من سرديتنا الملحمية، التي لطالما فضّل الكثيرون من السوريين بتسميتها بالتغريبة السورية على غرار التغريبة الفلسطينية، رغم اعتقادي بأنّ التغريبة الفلسطينية تكاد تكون أشبه بالمقبلات التي تسبق الوجبة الرئيسية أو الطبق الرئيس الذي يتصدّر المائدة ويسيل لعاب الأكلة وقد شمّروا سواعدهم ليغوصوا في اللحم الطريّ بعد أن حرّكت تلك المقبلات أمعاءهم وعصاراتهم المعوية لترفع من معدّل الشهية عندهم والإحساس بالجوع، فانهالوا علينا كوحوش ضارية لم يتذوّقوا اللحم منذ زمن.
ولدت "إشراق" في المنفى القسريّ فيما كان الجميع هائمون على وجوههم تتخبّط فيهم مراكبهم الصغيرة أمام لجج بحر هائج تكسرت تحت وطأة ضرباته كلّ المجاديف، وتركنا لقمة سهلة لأسماك القرش البشرية تنتقي منّا من تشاء ومتى تشاء، وظننّا أنّا ذاهبون إلى الفناء ولن يلقي لنا أحد حبل النجاة وكنّا مخطئين.
لم تنشأ فكرة جريدة تحكي باسم السوريين من مؤسسات الائتلاف الذي ادعى أنّه يحمل مشروعاً وطنياً متكاملاً للسوريين بشكل عام في الداخل والخارج، ورغم الدعم المالي الذي تلقّاه من العديد من الدول وبمئات الملايين من الدولارات، إلّا أنه فشل في تبني أي مشروع إعلامي يستطيع إيصال صوت السوريين للدفاع عن قضيتهم المحقة أمام الرأي العام العالمي أو على الأقل التصدّي لحملة التشويه الممنهجة ضدّ ثورة الشعب السوري، تلك الحملة التي قادها النظام وروسيا وإيران بكلّ ما يمتلكونه من كذب وتزوير، وعلى الرغم من ضحالة ذلك الإعلام وغبائه وانكشافه في أكثر من محطة وموقف، ولكنّه كان معتمداً على تقصير الائتلاف أكثر من اعتماده على مكنته الإعلامية.
في خضم تلك الأجواء يأتي طرف تركي يمثّل المجتمع المدني وليس طرفاً حكومياً، وعلى الرغم من ضعف إمكانياته المادية استطاع أن يوفر القاعدة المادية لمنبر إعلامي جمع بين الكتاب والصحفيين الأتراك والسوريين لتخرج صحيفة إشراق بأرقى شكل وأسطع نموذج عن وحدة الشعبين ومصيرهما ومستقبلهما المشترك، فجاءت الصحيفة باللغتين التركية والعربية لتعزّز من اندماج الشعبين وتفتح نافذة فكرية وثقافية ليطلّ من خلالها كلا المجتمعين على بعضهما البعض ليتعارفوا أكثر بعد عقود طويلة من القطيعة التي فرضها نظام الأسد منذ أيام الأب حافظ الذي ناصب تركيا العداء واحتضن حزب العمال الكردستاني وسمح له بالنشاط داخل الأراضي السورية وفتح له معسكرات تدريب عسكرية، وأجاز له تجنيد العديد من اليافعين الكرد ليقوموا بتنفيذ أعمالاً إرهابية داخل تركيا كانت تستهدف المؤسسات الأمنية على وجه الخصوص من أجل زعزعة الأمن والاستقرار في البلد الجار، ليخلق حالة من العداء بدل أن يفتح صفحة بيضاء لعلاقات صداقة وأخوة بين البلدين.
حين التحقت بأسرة الكتاب والصحفيين في إشراق عام 2019 كانت الصحيفة قد استقرّ حالها وتجاوزت الصعاب في مرحلة التأسيس حتى باتت على الشكل الذي استمر حتى اليوم من جمالية التنسيق والغنى الفكري والثقافي من كلا الطرفين التركي والسوري، وهذه مناسبة لذكر مآثر الأستاذ صبحي الدسوقي ودوره في تأسيس الصحيفة والذي غيّب قلمه القدر السنة الفائتة رحمه الله.
الوقف الخيري في ولاية غازي عينتاب "بلبل زادة"، لم تكن مبادرته الوحيدة هي جريدة إشراق، فالرسالة الثقافية للوقف مستمرة ومتوسعة وفي أكثر من مجال حتى وصلت إلى الداخل المحرر بإقامة مراكز ثقافية في كلّ من اعزاز وعفرين والباب وغيرها من النشاطات التي ساهمت بشكل كبير في عملية التسريع في اندماج الشعبين.
ما نطمع به حقيقة من الأخوة الأتراك هو المزيد من المشاركة في معالجة القضايا المجتمعية وعلى رأسها التصدّي لخطاب العنصرية الذي يحاول هدم ما تمّ إنجازه خلال عقد من الزمن، وهذا يحتاج قرارات شجاعة وجريئة من الطرفين ولكن البداية تكون من صاحب الأرض وصاحب القرار أولاً ومن ثمّ يأتي دورنا في تسخير كلّ إمكانياتنا الفكرية وخبراتنا الإعلامية في توحيد الخطاب الجامع والمثمر ليكون رافعة للمشروع الإنساني الذي تقوده تركيا في المنطقة من أجل تحقيق الاستقرار والأمن والرخاء لكلّ شعوب المنطقة ونزع فتيل النزاعات والحروب التي لا تخدم إلّا أعداء الأمة.
ختاماً أتوجه بالشكر لكلّ العاملين في إشراق وفي الوقف الخيري "بلبل زادة" على ما قدّموه ويقدمونه لتبقى الكلمة هي السلاح المشرع دوماً بوجه الجهل، ولتبقى الأقلام رماحنا التي نفقأ بها عين المتربصين.
ياسر الحسيني
كاتب سوري