عامٌ جديد وذكرى الثورة على الأبواب، مخلفةً وراءها أكثر من عقد زمني للمآسي والموت والخراب والدمار والاعتقال والتعذيب، كان سَبَبُها نظامٌ سادي، لجأ منذ البداية للخيار العسكري بمواجهة الشعب، ليحوّل ثورته السلمية لحربٍ حصدت أرواح مئات آلاف المدنيين بمساعدة روسيا وإيران وميليشياتهم، وحولت أكثر من نصف الشعب السوري لنازحين ولاجئين، وشجع نظام الخراب ومؤيديه، للتنظيمات الإرهابية بالسيطرة على مساحة واسعة من البلاد، مثل "داعش" الإرهابي، و“ي ب ك/بي كاكا” و“الأسايش” وحزبي الله اللبناني والعراقي، إضافة لعديد التنظيمات التي اتخذت من التشدد عباءةً لها باسم الثورة، وكلها ساهمت بزيادة معاناة المدنيين السوريين وأحرارهم.
النظام الأسدي الكيماوي وداعميه كانوا الأكثر قتلاً وفتكاً، فقاموا بقصف المدنيين واستهدافهم بالمخيمات والمدارس والمشافي ودور العبادة وأفران الخبز بكل المدن والقرى والنجوع السورية، فضلاً عن دور ميليشياتهم الطائفية التي جاؤوا بها، ليكون لكلٍ منها مجازرهُ الخاصة بحق المدنيين، وتتم في سورية عملية إبادة “جينوسايد” بكل المقاييس، إنها محرقة وإبادة وحشية بهيمية، ستثبت الأدلة أنه حتى الأرقام التي تبدو الآن مهولة هي أرقامٌ متواضعة قياساً بالعدد الحقيقي للضحايا.
تأتي المصيبة الأخرى التي حلت بالسوريين، وابتلوا بها، هي نشوء معارضة مسلحة لا علاقة لها بالثورة وأهدافها، ومع فقد نظام الإبادة في سورية شرعيته- حتى دولياً- جاء بمن يعمل ليلَ نهار لإعادة شرعيته؛ إنها الحركات الإسلامية المتطرفة وكل منها أسوء من الآخر، وبلا رؤية ولا برنامج لتنظيم المجتمع، إنما جُملٌ وشعارات غير مترابطة تكررها وتزعُم أنها رؤية، فلم تُجدِ، إذاً، جميع اللقاءات والمؤتمرات نفعاً طالما تصدر هؤلاء المشهد، وهم المقبولين من أصحاب المصالح والنفوذ الإقليمي والدولي للأسف.
وكانت مسؤولية أميركا هي الأكبر والأفظع بين جميع المتدخلين- لعدم وجود استراتيجية واضحة لها- في سورية، وكذا مسؤوليتها في الحلِ أيضاً! خاصة مع تعقد المشهد بعد 10 أشهر ونيف على غزو روسيا لأوكرانيا، آخذين بالاعتبار مسؤوليتها الكاملة على ما يجري بمناطق سيطرة أتباعها المباشرين “بي كاكا” واستنباتاته، فهل أعادت أميركا اهتمامها بسورية؟ وما دور إقرار الكونغرس لقانون محاربة ومكافحة مخدرات وكبتاغون الأسد؟ وإلى أي درجة سيتم تطبيقه- مع سماحها بوصول المساعدات إليه-؟
ففي عالمٍ يعج بالتحولات الاستراتيجية، أعتقد أن التفويض الأميركي لروسيا في سورية قد انتهى، خاصة مع الرغبة الأميركية بالتحكم والهيمنة المطلقة على البحار، ومنها معابر النفط الدولية، وعسكرة اليابان بمواجهة الصين فضلاً عن الغزل الواضح للهند لفصل تعاونها مع روسيا، فلم يعد أي معنى جيواستراتيجي لوجود روسيا في سورية، أي أن الأوليغارشية الروسية تلاشت، ومن الصعب الاقتداء بها من أحد، فهل تستطيع روسيا إعطاء تركيا أي شيء أمام الأفضلية للناتو وأميركا؟ وما فائدة هروب نظام الكبتاغون لصفقة مع الأكراد؟ ولماذا هذه الصفقة مازالت صعبة مع تركيا، وسهلة مع “بي كاكا” واستنباتاته وبيع الأوهامِ لهم؟
إن الأدوار الناجحة- إقليمياً ودولياً- لتركيا وهي تجدل حبال استراتيجيتها، بأرمينيا وأذربيجان وأوكرانيا، وليبيا وسورية والسعودية والإمارات ومصر، بوقتٍ لا يستطيع النظام الكيماوي تقديم أي شيء لتركيا، ولا للسوريين بالداخل أو للاجئين في الخارج، وأمام غياب عربي رسمي مطبق في هذا الشأن هناك ظواهر اجتماعية بدت في المحافظات- تحت سلطة الأمر الواقع لنظام القتل- وبوجود كل الأزمات المعاشية والسياسية والاجتماعية واختناقاتها على طريق الانهيار المشابه لـ“بابلو أسكوبار”، ظواهرٌ بدت كخامات معتدلة لتجاوز النظام واستطالاته، الأمر الذي يسمح بدور أكثر فاعلية لتدخل تركي بجميع المجالات، وبتوافقات دولية في هذا الشأن.
فهل سقطت سورية في الجحيم الأسدي نهائياً؟ أم ستنهض بعد ترتيب الأجواء سياسياً بخطة انتقال سياسي تُتوج بخطط اقتصادية عبر منظوماتٍ اقليمية ودولية بعد استبعاد إيران وتفويض تركيا في سورية؟ وهل ضاقت خيارات المتدخلين بالشأن السوري بفعل الدور الأميركي الهائل والضاغط قانونياً وسياسياً؟ وما مدى تكامل ذلك مع سياسة التعطيش الاقتصادي الأميركي دولياً بمساعٍ وضغطٍ للبنك الدولي(IMF)؟
إن الدور التركي مهم جداً لأميريكا، وتقبل الأخيرة بهذا الدور، وإعادة ترتيب الأوراق بسورية من جديد قد تعيد بعض أجواء الاستقرار الاقتصادي بدعم غربي وأميركي بعيداً عن التبعية، للانتقال بالشعب السوري من سلطة فاشية لدولة ناشئة إلى دولةٍ حديثة.
عبد الباسط حمودة
كاتب سوري