معادلة الضغط والمصلحة 


 

طلبت رئاسة تحرير صحيفة إشراق التركيز على مسألة التقارب والتطبيع التركي مع النظام السوري، فكرت ماذا أكتب ؟؟ هل أستجدي تركيا من أجل التراجع عن هذا التقارب؟ وهل يصل صوتي لأحد في الدولة التركية؟ وهل لهذا الصوت صدى في حال وصوله؟ هل أنا بحاجة لعرض المصير المخيف الذي ينتظر السوريين المؤيدين للثورة في حال عودة العلاقات التركية السورية لسابق عهدها قبل الثورة؟ حتى المظاهرات التي تخرج بالآلاف في الشمال السوري هل لها تأثير مهم في القرارات الاستراتيجية للدولة التركية؟ هل علي أن أتذاكى وأتكلم عن الخطر الذي يتهدد مصالح تركيا في حال حصول مثل هذا التقارب، وكأن الحكومة التركية لا تعرف مصلحتها؟ 

الجميع يعلم مدى الأثر الديمغرافي والأمني والاجتماعي والنفسي الذي سيحدثه مثل هذا التطبيع على الفئات التي ثارت ضد النظام السوري والتي تم تجميعها في الشمال السوري، وبدون شك النظام التركي يدرك ذلك ويضعه في حسبانه ولكن ليس كأولوية مقدمة على مصلحة بلده وشعبه، ولسنا بحاجة إلى البكاء والنحيب والصراخ حتى يدرك أصحاب القرار المصير الذي ينتظر جمهور الثورة في حال سيطرة النظام السوري على الشمال. 

قضيتنا اليوم في عمقها سياسية وليست أخلاقية، بمعنى أننا لسنا بحاجة إلى البراهين والأدلة والحجج لإقناع الآخرين بعدالة قضية الثوار السوريين وحقهم الطبيعي على الأقل بالعيش خارج سيطرة النظام الذي ثاروا ضده. ولسنا بحاجة إلى المبالغة من أجل تصوير المصير الذي ينتظرهم في حالة سيطرة النظام على مناطق نفوذهم. لو كانت القضية أمام محكمة عادلة قادرة لكان من السهولة بمكان كسبها بجهود محام مبتدأ. لكن المسألة – وخاصة مع امتدادها وتعقيدها – هي مسألة قدرة على ممارسة الضغط وتحقيق المصالح. نحن لسنا في عصر عمر بن عبد العزيز، نحن في عصر أميركا وفرنسا وروسيا وبريطانيا. هكذا هي قوانين السياسة في عصر سيطرة الغرب على العالم.

حتى يكون لنا صوت مسموع نحن لسنا بحاجة إلى مقالات وخطابات وحتى مظاهرات، نحن بحاجة إلى قوة ميدانية مهيكلة ومتماسكة تعرف هدفها جيدًا وتستطيع ممارسة بعض الضغط على المتربصين بالنظام التركي( ميليشيات كردية، أميركا، النظام السوري ومن يسانده، المعارضة التركية)، وتأمين بعض المصالح الاستراتيجية لتركيا بضمان أمن واستقرار حدودها مع سورية، وتحقيق درجة معقولة من الأمن الاجتماعي والاقتصادي في الشمال السوري، بهذه اللغة يمكننا توجيه الخطاب للحكومة التركية. وهذا غير ممكن إلا بطريقة واحدة فشل الثوار حتى اليوم بتحقيقها. أقصد القدرة على إفراز قيادة مركزية للشمال السوري تتحكم بالقرارات الاستراتيجية السياسية والعسكرية والأمنية والعلاقات مع الجوار.

من أجل ذلك كله فإن كلماتي موجهة بشكل أساسي للفعاليات والنخب المثقفة وأصحاب القرار السياسي والعسكري في الشمال السوري، لأن بداية الحل الذي يرضي جماهير الثورة – إن وجدت – فهي هناك، حيث يمكن تحقيق معادلة  الضغط والمصالح. أما توجيه الخطاب نحو الحكومة التركية فهو بمثابة صرخة في الهواء ستتلاشى بعد حين. 

مخطئ بل ساذج من يظن أن الدول الكبرى وتركيا ستسمح باستمرار الشمال السوري دون وجود جهة واحدة تتحكم بقراره يمكن التفاوض والتنسيق معها. مخطئ وساذج من يظن أن تلك الدول ستقبل على المدى الطويل بوجود عشرات الفصائل والزعماء في الشمال السوري، والسبب في تغاضيها عن الوضع القائم الآن هو رغبتها بالحفاظ على الشمال السوري بؤرة توتر قابلة للانفجار في أي لحظة تريدها تلك الدول ريثما تعيد ترتيب المنطقة بما يتناسب مع مصالحها. مخطئ وساذج من يعتقد أن للشمال السوري مستقبل يتناسب مع طموحات الثورة دون النجاح بتشكيل قيادة مركزية تضع استراتيجية إدارية وثقافية واقتصادية وعلمية تنهض بالشمال السوري وتحقق بعض طموحات الثوار بالحرية والتقدم وخلق بيئة مناسبة للإبداع.

لقد قدمت الحكومة التركية الحالية كل ما تستطيع دعمًا للسوريين في ثورتهم وخسرت مقابل ذلك العديد من مكتسباتها في الداخل والخارج، ولا يمكن لعاقل أن يظن أنها ستستمر على هذا النسق إلى ما لا نهاية. في النهاية يبقى الهم الأول للحكومة التركية بلدها وشعبها وناخبيها، وعلى الرغم من الحضور الأخلاقي لقراراتها في بداية الثورة ولسنوات طويلة إلا أن ذلك بات مكلفًا للغاية ولا أظنها قادرة على المتابعة بذات الطريقة. صحيح أن مصلحتها حسب اعتقادنا تكمن في بقاء جمهور الثورة قويًا على حدودها، لكن فشل الثوار بتشكيل قيادة مركزية والضغط الذي تتحمله الحكومة التركية داخليًا وخارجيًا في سبيل تحقيق ذلك سينقل مصلحتها إلى مكان آخر، إن لم يكن الآن ففي المستقبل القريب. لذلك فإن الكرة الآن في ملعب النخب المثقفة والفكرية والاجتماعية والقيادات السياسية والعسكرية في الشمال السوري. 

لقد بح صوت المثقفين منذ سنوات وهم يوجهون النداء للنخب والقيادات في الشمال السوري بضرورة تجاوز الخلافات فيما بينهم والتوقف عن لغة التخوين السائدة بين الفصائل والعمل سريعًا على تشكيل قيادة مركزية يقبل بها الجميع – مع أنها لن تكون حتمًا على مقاس طموحات الجميع – ويسند إليها وضع الاستراتيجيات وعقد التحالفات والتحكم بالقرارات المصيرية التي تضمن أمن وتقدم الشمال السوري، لكننا ورغم الظروف الصعبة ما نزال حتى اليوم نقرأ ونسمع لغة التخوين والرفض والإقصاء بين الفصائل والنخب والفعاليات في الشمال السوري، فإذا كنتم غير مستعدين للتنازل فيما بينكم وأنتم أصحاب القضية، وأنتم مشروع محرقة جديدة، فكيف تطالبون الحكومة التركية أن تتنازل عن مكتسباتها وتضحي بمصالحها من أجلكم؟!  

إن لم تتنازلوا لبعضكم وتتوقفوا عن التخوين البيني الداخلي وتدعموا القيادة الموجودة مرحليًا، وتلتفوا حولها وتصلحوا اخطاءها، وتدركوا أن الرغبات شيء والإمكانات شيء آخر فتتخلوا مختارين عن بعض رغباتكم وطموحاتكم أمام شركائكم قبل أن تخسروها جميعًا مضطرين أمام خصومكم وأعدائكم، وتسارع الفصائل الكبيرة والفعاليات الثقافية والاجتماعية والدينية الوازنة للاتفاق على الانتقال التدريجي الهادئ نحو قيادة مركزية مقبولة من الجميع تحقق معادلة الضغط والمصلحة فمصيركم محتوم. والوقت جد ضيق لبدء الحركة بهذا الاتجاه.

 

 

د معتز زين 

كاتب وطبيب سوري

Whatsapp