لقد بات معلوماً أن الاستدارة التركية، رسمية ومعارضة، نحو نظام الشبيحة الأسدي ليست محليّة وانتخابية حصراً وإنما هي جيو- سياسية بامتياز بفعل التطورات الإقليمية والدولية؛ وقد بات واضحاً أيضاً بعد سنوات الثورة كلها أن الحُماة الحقيقيين لنظام الشبيحة هم كتائب وفصائل التشويل والنهب المعادية للشعب والثورة، المرتبطة بالخارج تمويلاً وعتاداً، ناهيكم عن الفصائل المستجدة بعد 2015 التي تكاملَ دورها معهم.
وإن موقف بوتن ومصالحه المتبادلة مع تركيا وحاجته بفعل تداعيات غزوه لأوكرانيا والضغط الغربي وعقوباته عليه، وعدائه للحرية ولطموحات الشعب السوري ودعمه لنظام الشبيحة بالمجازر والعتاد والفيتوات دفعته للرقص على تناقضات الساعة، كل ذلك جعل مما تسمّى “مصالحة وتطبيع” بين تركيا ونظام القتل السوري مرشّحة لأن تحصل، ولو في أدنى درجاتها ولا علاقة للشعب السوري- بالداخل أو بالخارج- بها إن حصلت.
فهل تستحق التعاسة الروسية وبوادر هزيمتها في أوكرانيا هذه المُخاطرة؟ وهل استثمر نظام آل أسد بجرائمه وتدميره لكل أرجاء سورية، فضلاً عن اختناقه الاقتصادي والمالي وإفقار جميع من هم تحت سلطته، كي يستحق هذا الانعاش السياسي الذي لا يمكن البناء عليه، خاصة بعد تقلّص قدرة حليفيه المجرمين الروسي والإيراني على دعمه؟ وهل تخلى نظام الشبيحة عن معاداة تركيا وأوقف تصاريح وتفوهات أبواقه ضدها وضد اللاجئين السوريين؟ وهل لاستياء السوريين المشتتين وتظاهراتهم بوجه مشروع المصالحة والتطبيع أي تأثير؟ أم هو الوحيد الكفيل بالتأثير بوجود متصدري المشهد وتخليهم عن واجباتهم الوطنية خاصةً إيقافهم للمواجهات القتالية مع النظام؟! ثم أين ذهب البحث عن حلّ سياسي وفقاً للقرار الدولي 2254؟ أليس ذلك كله على حساب القضية السورية العادلة؟
ينبغي التذكير بأن لا حلّ بوجود نظام بشار أسد الكيماوي أياً تكن الصيغ المطروحة لـ“تجميله” أو “شرعنته”، إنه انتهى بالفعل وتحول إلى أنقاض بمقدار ما حول الدولة والبلاد إلى أكوام من الركام والخراب، وأن أنقاض نظامه السياسي والإداري والفكري لا تختلف أبداً عن الأنقاض المادية للمدن والبلدات والقرى السورية التي دمرها، أي أنه فقد أي قدرة على التماسك الذاتي وتنظيم نفسه وصياغة أجندة سياسية خاصة به، ولا يستمر في الوجود إلا بفضل ما تبثه فيه الدول الأجنبية المنتَدبة باسمه، إيران وروسيا، من تنظيم ونظام ووحدة واتساق، وقد سلم أمره طواعيةً، بما في ذلك على الصعيد العسكري، لهاتين الدولتين المحتلتين وصار رهينة في أيديهما، وليس لهما مصلحة بإعادة بناء النظام وتوازنات المصالح بما يساعد على إحيائه بعد موته، ولن تستطيع إحياءه حتى لو سعت إلى ذلك؛ إنما ستعيد بناء نظام يتفق مع المصالح التي اكتسبتها وتلك التي تُراهن على اكتسابها.
يدرك نظام آل أسد أن مشروع المصالحة والتطبيع المزمع يتطلّب منه تنازلاتٍ لطالما رفضها دوماً، ولم يسبق أن تعرّض لضغوط روسية حقيقية لقبولها، وكان وما يزال يعوّل على حليفه الإيراني وميليشياته لمواصلة تعنّته، مع أن الدعوة لمشروع المصالحة المعلن تقوم على مكافحة الجماعات الإرهابية! والتقدم في الحل السياسي! وإعادة اللاجئين!، إلا أن روسيا وتابعها في دمشق لم يُعلّقا على النقطتين الأخيرتين، وما يلفت في تلك التحرّكات هو غياب إيران، المُختنقة بتظاهرات حرائرها وأحرارها منذ حوالي أربعة أشهر، الذي لا يعني أنها راضية وموافقة، مع أنها تراقب وتعرف حدود ما سيكون؛ ومتى تستشعر أي خطر على مصالحها فإنها تستطيع أن تخرّب أو تعطّل أي مسار أو مشروع، لأن نظام الكيماوي نفسه لا يستطيع اتخاذ أي قرار من دون موافقتها.
إن ما تسمّى مشروع “مصالحة وتطبيع” لا يمكن أن يشكل بديلاً لأهداف الثورة والشعب السوري، وروسيا تعرف تماماً أن القرار النهائي للحل في سورية لن يكون من دون موافقة غربية، وأميركية تحديداً، وكل النقاط التي تجمعها سواء بنفسها أم مع غيرها لا بد أن تُصرف في نهاية المطاف عند أميركا، وتدرك مدى حساسية القضية السورية للأوروبيين والأميركان وتداخلها مع الملفين الخطيرين اللبناني والعراقي، وأثرها على الأردن ودول الخليج أيضاً، إضافة للدور الإيراني والإسرائيلي في هذا المشهد؛ ولن تتمكن الصفقة أو المشروع المطروح من انتشال السوريين، بالداخل أو بالخارج، من الأزمات الكارثية التي تسببت فيها السلطة الفاشية بدمشق، بل ستؤدي إلى تكريسها بصورةٍ أعمق وأشمل.
وما سيجمع بين السوريين، ويمنحهم القوة والثقة بالنفس هو التوافق على برنامج وطني عام للعيش المشترك يُطمئن جميع السوريين دون أي تمييز، على قاعدة احترام الخصوصيات والاعتراف بالحقوق لجميع أبناء سورية بشتى مسمياتهم وأديانهم وطوائفهم وقومياتهم، شريطة إعطاء الأولوية لولائهم السوري قبل أي ولاءٍ آخر، وأن يعيشوا مع بعضهم رغم توزعهم بين المناطق الخاضعة لهيمنة السلطة الأسدية وتلك الخارجة عن نطاق سيطرتها، فالأرض السورية المقدسة هي أمٌّ لسائر أبنائها وبناتها في إطار وحدة الشعب والوطن.
عبد الباسط حمودة
كاتب سوري