قراءة في قصيدة الشاعرة التركية انجي اوكوموش (قصيدة في زمن الهجرة)
تتميز الشاعرة انجي أوكوموش بعلاقة خاصة مع الطبيعة، فالعناصر ليست صامتة جامدة، بل هناك تأثر وتأثير، يمكن أن نقول هي رومانسية المشرب، تمقت العنف والقتل والحرب، ربما تذكرنا نحن بقصائد الشاعرة العراقية نازك الملائكة، ولكن هناك فرق واضح في الأسلوب والرؤية، فنازك سوداوية و الليل عندها طويل وطاغي، والزمن أو الموت عند نازك غول يتربص بها في كلّ مكان، لذلك تجد الاشجار والسماء والأنهار كلّها في لون رمادي أو أسود مرعوب ومرعب. بينما عند الشاعرة التركية أنجي أوكوموش مختلف. فأغلب قصائدها مفعمة بالحياة والتفاؤل. تحب الفجر والنور. ولهذا عندها عناصر الطبيعة مفرحة وزاهية. مرحة، متفائلة، وحساسة. والقمر يكون سعيدًا أو حزينًا وفق حالة الإنسان، والأشجار والأنهار والجبال والرياح تغني وتشارك الإنسان حين يكون فرحًا، وتقدم له العزاء حين يكون حزينًا.
لست بصدد المقارنة بين الشاعرتين وهي تستحق دراسة مطولة، لكن أقف هنا عند فلسفة الحياة والموت من منظور انجي عبر قصيدتها (قصيدة في زمن الهجرة) التي أهدتها للمهاجرين أو كما قالت هي: للذين لا جغرافيا لهم.
الهجرة تعني ترك الأرض التي ألفتها، لكن هل من هجرة كاملة؟ ويمكن السؤال بطريقة مختلفة، لأن الإنسان الذي يهاجر لسبب ما، والهجرة عموماً قاسية، فيها فراق إجباري وليس طوعياً، والسؤال ما الذي يبقى من المهاجر وما الذي يرحل معه؟
تذكرنا الشاعرة التركية أنجي أوكوموش بثنائية الإنسان. فهو مزيج من الروح والجسد. الفراق بينهما يتم عند الموت. ولأنّ الهجرة حياةٌ لا موتاً طبيعياً، فإنّ جزءًا من هذه الروح يبقى متعلقاً بالمكان الذي ولدت ونمت فيه، ومهما حاول الجسد أن ينقل معه ما يستطيع، لن يقدر على نقل روحه معه كاملًا.
قصيدة الشاعرة من النوع الوجداني الذاتي. رومنطيقية الشكل. تحوي عناصر شعرية رفيعة المستوى. وبناء القصيدة شيّد على التوازي. البقاء مقابل الرحيل. صعود وهبوط. ومفتاح القصيدة كلمة (البقاء) التي تكرر في كل مقطع. وتتناول القصيدة على شكل رباعيات وعبر مشاهد (دورات خمس). أربعة مقاطع تمثل تعاطف الشاعرة مع مراحل الهجرة، وتكون الذروة في المقطع الرابع حيث يشهد صراعًا تراجيديا بين جسد الشاعرة وروحها. أما المقطع الخامس، هو بدء دورة جديدة، دورة الرحيل مع فارق كما سيتوضح لاحقًا.
الحركة العامة للقصيدة دائرية، تكتمل الدورة كالمواسم الأربعة ثم تعود لتبدأ من جديد، إنها قضية الحياة والموت. وفي كل دورة نجد ثلاث حركات، نحو الأمام ونحو الأعلى ونحو الأسفل، ولا نجد حركة لوراء كما في قصائدنا العربية، حيث حركة العودة للماضي جزء لا غنى عنه في أديباتنا. نشهد حركات صعود وهبوط، أي فعل ورد فعل، مع استمرار المضي نحو الأمام. واقتضت عملية عدم تحديد المكان لتعويم الزمان، لذلك حين نتابع قوافل المهاجرين وتعاطف الطبيعة معهم لا يشغلنا الزمن لأننا نعيش الزمن مع الشاعرة، وهذا يتضح من العتبة الأولى أي من عنوان القصيدة، (قصيدة في زمن الهجرة).
يمكن فهم القصيدة على شكل خمس لوحات، فكلّ مقطع لوحة متكاملة، وإن كان الفن أو الأدب من تعريفاتهما أنهما ناقلان للشعور لا للمعلومة، يمكن تناول هذه اللوحات بأنها حكاية دراما لا تنتهي طالما هناك حياة على المستوى العام، وهي تراجيديا على مستوى الشاعر.
تبدأ الدورة الأولى أو المشهد الأول، في حركة أفقية، فالمهاجرون في حالة ترحال، والطيور كناية عنهم، ورحليهم يهبط على قلب الشاعرة على شكل أبيات شعر، هم ذاهبون لمكان غير معروف ولكن هذه المأساة تطبع أثراً على قلبها، لذلك لن يمحَى وإن رحلت الغيوم ومضت الأيام.
تمرّ الطيور بداخلي كقصيدة شعر
هم يحلقون وأنا أهبط
تلامس أرجلي جغرافيا لا مالك لها
ترحل الغيوم وأبقى
لذلك هذا الأثر في المقطع الثاني وحركته أفقية، عميق وبالغ المدى لدرجة هذا البعد يلاقي فيه البحر مع الأفق، يدفعه تيار الحب والمحبة والحزن على الحالة مثلما يغذي الربيع الماء المستخلص من قطرات الندى، وربما هنا قصدت الشاعرة بالأطفال، حيث دموعهم مثل قطرات الندى التي تتشكل على الأزهار فتزيد من سرعة جريان النهر أو عطاء النبع، ولكن هي باقية مراقبة.
أزرق يلامس شرياني التاجي
من البحر أم السماء لا أدري
يتسرب الربيع للمياه من الأزهار
المواسم تمضي وأنا باقية
في المشهد الثالث تبدأ لحظة بدء انفصال الروح عن الجسد عند الشاعرة، حين بدأت ترى الأجنحة المتكسرة - حسب تصوري كناية عن النساء - يغيب صوتها وبكاؤها مع الرياح على قمم الجبال، فالحركة هنا تصاعدية تأخذ الشاعرة لتبحث عن هذه القلوب في السماء. فترتد إليها محملة بالآهات فيتهيأ الروح ويبقى الجسد.
كأن الأجنحة منسية في رياح الجبال
أبحث عن طيور قلوبها السماء
بكلمات مكسورة تنطق الآهات
تذهب الأشعار وأنا باقية
المشهد الرابع هو الذروة. صراع بين الجسد والروح عند الشاعرة. الروح يريد أن يرحل ولكنّ الجسد يناديه، لا يمكنه الرحيل دون الجسد. وهنا قمة التراجيديا، هذا الصراع الذي يعصف بكيان الشاعرة، بين رغبة بالرحيل معهم وواقع البقاء، ولذلك شبهت الشاعرة الجسدَ مثل سفينة مهددة بالغرق من كثرة هيجان الأمواج، ولأن الحياة تتطلب بقاء الروح مع الجسد، يغلب الجسد الروح أو هكذا يبدو فتغادر القوافل دونها مخلفة الدموع.
لترفرف الأمواج في داخلي كقصيدة شعر
الأشعار تطفح وأنا صامتة
يمتلئ خداي بدموع لا صاحب لها
تغادر القوافل وأنا باقية
المشهد الأخير أو المقطع الأخير هو بداية لدورة جديدة. لأن القافلة رحلت، وجاء الليل، وهو لحظة تضميد الجراح، فالروح غلبه القدر، والطبيعة كلّها حزينة متأثرة، كل شيْ انتهى، ولكن الشاعرة لا تستسلم، قفلة القصيدة تعلن بداية جديدة، وعزم الروح ما زال، وإن كان لا يمكن فصل الروح عن البدن في الحياة، ليكن العكس:
أمشط شعر ضوء قمر جريح
أنا أعرف هذه الألآم منذ قالوا بلى
تعبت من حمل الدينا بقلبي
قفي أيتها الأيام القادمة أنا راحلة.
العنصر المتحول الكبير نلاحظه في الكلمة الأخيرة (راحلة). ففي كلّ مقطع تتكرر مفردة (البقاء) ولكن في المقطع الأخير يحل مكانه (الرحيل). ومفتاح التحول هو عدم تحمل القلب هذه الألآم التي يعرفها منذ الأزل (قالوا بلى)، ويستخدم هذا المصطلح كثيرًا في الشعر التركي الديواني، حيث يشير إلى لحظة صوفية بأن المشاكل بدأت منذ مغادرة مكان تجمع الأرواح (أولست بربكم قالوا بلى)، أي وقت التقى البدن بالروح. ومن هنا نكتشف بأنّ الصراع بين البدن والروح مستمر منذ الأزل. ولذلك كان مطالبة إيقاف الهجرة والفظائع وإلا روح الشاعرة أيضا سيهاجر.
وهنا نجد في الخاتمة (الأمل) مع العزم على المقاومة. هي تدرك استحالة فصل الروح عن الجسد في الحياة، لكن تعلن للزمن/ للموت أنها راحلة حتى بدون البدن.
فالهجرة إذن لا يمكن أن تكون كاملة، لأنّ جزءًا منها يبقى، وأثارها باقية، يلمحها صاحب البصيرة والإحساس. إن بدت المشاهد الأولى في القصيدة مشاهد شفقة وحزن فإن المشهد الأخير هو مشهد تعاطف، وكأن الشاعرة أنجي أوكوموش تقول لنا: زمن الهجرة مستمر ومن الأسلحة المهمة في تخفيف جلله هو التعاطف لا الشفقة. والتعاطف يعني أن تضع نفسك مكان الآخر، وهذه دعوة للتعايش والسلم، وهكذا هم الشعراء والأدباء والفنانون والمفكرون الذي يحاربون دون هوادة من أجل الإنسانية.
علاء الدين حسو
روائي وكاتب سوري