التصوف والرمز الصوفي والحب
ليس للصوفيّة تعريف جامع مانع، وإنّما هي اتجاه انبثقت عنه مدارس مختلفة، يتّصف أصحابها -عموماً-بأنّهم يبخسون العقل حقّه، ويعتقدون بأنه غير قادر على إدراك الحقيقة، وإنما يمكن الوصول إليها بالكشف الباطني.
وتتعدّد الآراء في أصل تسميتهم، فمن قائل هي من الصفاء، لأنّهم عُرفوا بصفاء القلب والتخلّي عن شؤون الدنيا. ومن قائل هي من الصفّة، أي من السقيفة التي كان يتعبّد تحتها الفقراء خارج مسجد المدينة، على اعتبار الشبه بينهم وبين نسّاك الأعاجم. ومنهم من يرجّح أن التسمية جاءتهم من تفضيل لبس الصوف تقشّفاً، وقهراً للنفس، وإيذاءً للجسد.
ومن تعريفات الصوفي، هو الإنسان الذي ينقطع إلى الله عن البشر، ويتميّز بالتقشّف والاستغراق في شؤون الرّوح.
ويريد الصوفي إذلال الجسد وقهره وحرمانه رغباته ليتمّ التحرّر منه، والعودة إلى النفس الطاهرة. لقد تلوّثت النفس بأدران المادّة حين حلّت بالجسد، وكي تسمو إلى الله وتستمد منه المعرفة الصحيحة بالمكاشفة، لابد من الانقطاع للعبادة وترك شؤون الدنيا الفانية.
ويتّصف الصوفي بتنقّله الدائم بين حالتَي الحزن العميق والفرح العارم، عبر تجربته الخاصّة. فالصوفي يؤكّد وباستمرار بأنه لا شيء كجسد حي، وبالتالي، لا يعترف بأصالة وجوده إلاّ في حالات الانخطاف.
ويعيش الصوفي حالات روحية قد تلوح لنا بعيدة عن العقلنة إلى حدّ الإسراف، لأنه يكتفي بمعاناة التوتّر الداخلي العميق، ويحقق الإشراق المباغت إبّان حالات البسط فيحبّ العالم والأشياء إلى حدّ الاتّحاد بها.
إنّ ظاهرات التناقض التي نتلمّسها لدى الصوفي تقتصر علينا وحدنا نحن الذين لم نعش حالات التوتّر المبدع التي عاشها الصوفي بوجوده كلّه. بينما تكون هذه الظواهر بعيدة عن التناقض في رؤية الصوفي، انطلاقاً من كون الهاجس الأبدي لديه يتمثّل في التسامي والتعالي.
وما دام الصوفي يتطلّع إلى اختصار الوجود واختزاله واحتضانه، عبر تجربة الحنين الأبدي إلى الله، فهو حزين أبداً، لذا يمتطي فرس الحب متطلّعاً إلى الفرح الكبير من خلال تجربة الاتحاد المستحيل. إنه ينأى بكل قواه عن العوالم الظلاليّة ليسرحَ في ملكوت الشهود القلبي للمطلق.
* * *
لاشكّ أنّ الرّمز الصوفي قد أغنى الأدب العرب، وكان -دائماً -مصدر إلهام كثير من الشعراء، ولكنّ هذه النفحات العظيمة لا تغفر لأصحابها كثيراً من الشطحات التي لا يمكن تبريرها أو تصريفها لتؤدّي معنى لا يمسّ قيم الدين التي يكنّ لها المؤمنون احتراماً خاصّاً.
التصوّف لم يكن طريقة واحدة، يعتمد أصحابها منهجاً موحّداً، بل اكتنفته طرائق عديدة عبر التاريخ، تشترك كلّها بالزهد وبالعمل على تطهير النفس… ولكنّ بعض الصوفيين اكتفوا بالشعائر الصوفية وحدها، وفقدوا الجوهر.
كان التصوّف زهداً عملياً، ثم تطوّر إلى فلسفة صوفيّة، بتأثير التعاليم الهندية البوذية، ثم دخل في دور التطرّف مع الحلاّج، وما لبث أن انقلب إلى ادّعاء وشعوذة، وسمح أصحابه لأنفسهم في التقرب إلى الله بعد أن حظوا بالاتّحاد به، ولم يعودوا بحاجة إلى الوسائل للوصول إلى مرضاته.
والزهد -بشكله المتطرّف هذا- كان موجوداً في التنسك اليهودي، والرهبنة المسيحية، والتصوّف الهندي والفارسي… وسواها…
لقد أثّرت المسيحية في فكرة الحب الإلهي التي دعت إليها رابعة العدوية، وتشبّه السالك بالرّاهب. كما بدا تأثير الفلسفة الهندية واضحاً في فكرة الفناء وعقيدة الحلول، وأدت إلى بدعة حلقات الذكر، وفنون تعذيب الجسد، ونظام المشيَخة، وسلوك الطريق…
والفلسفة اليونانية أثّرت في فكرة الإشراق، والاتّصال، ومبدأ وحدة الوجود، فما الذي بقي من الإسلام في ذهن المتصوّفة الذين لجأوا إلى الحدس والخيال بدل الملاحظة والتجربة والاستدلال… بدل العلم الذي دعا إليه الإسلام في أول آية قرآنية " اقرأ باسم ربّك الذي خلق".
وإلى جانب الآيات التي تحثّ على ذكر الله وتدعو إلى الإعراض عن الدنيا، والسعي لكسب الحياة الأخرى؛ هناك آيات أخرى تحثّ على العمل والكسب وتحصيل السعادة الدنيوية:
" قل مَن حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطّيبات من الرّزق…”.
والنبي العربي كان يتنعّم ولم يكتف بالزّهد والعبادة، ليقدّم مثلاً صالحاً ويؤكّد أنّه " لا رهبانيّة في الإسلام". ولم يتوانَ عن الحثّ على طلب العلم وإعمال العقل، ومقابلة الحجة بالحجة، وعدم الاكتفاء بالاعتماد على الكشف الباطني " فضل العلم خيرٌ من فضل العبادة " " لفقيه واحد أشدّ على الشّيطان من ألف عابد". وفي حديث آخر: " لمّا خلق الله العقل فقال له أقبل فأقبل، قال له أدبر فأدبر" فقال ما خلقت خلقاً أشرفَ منك، منك آخذ وبك أعطي.
ولم يأذن النبي لأحد بابتداع طريقة تبعد عن كتاب الله وسنة رسوله الكريم.
* * *
يحاول الصوفيّون التقرّب إلى الله للوصول إلى طريق الحقّ الإشراقي. وهم، في سعيهم، يسعون إلى تطهير النفس كي تتمكّن من تقبّل الإلهام الإلهي، وذلك لا يكون إلاّ بالتخلّص من أدوات الجسد ومطامع النفس، والتفرّغ للعبادة بعيداً عن حطام الدنيا ومفاسدها. وابن عربي واحد من أشهر المتصوّفة الذين صاغوا مذهب الصوفية ودعوا إليه. اعتقد ابن عربي أن العالم مظهر للألوهية، باعتبار أن الله والعالم شيء واحد، والاختلاف بين الله والعالم إلاّ من حيث الصورة.
بدايات ابن عربي في تجربة الاتحاد على مستوى العروج. ومن ذلك إحدى رؤياه على دروب النظرة الأحادية، بعد أن تجاوز الأربعين، حيث رأى نفسه مع جماعة من الصالحين في بيت شديد الظلمة، ولم يكن لهم نور سوى ما ينبعث من ذواتهم، فدخل عليهم شخص حسن الطلعة والقول، وأشار إلى أنه رسول الله، وإجابة عن سؤال ابن عربي عن رسالته، قال له: اعلم أن الخير في الوجود والشر في العدم، وقد أوجد الله الإنسان بجوده. ومن هذه الرؤية بدأت تجربة الاتحاد عند ابن عربي ليرسو على نظرية وحدة الوجود. وتتكرر هذه المسألة عند ابن عربي الذي قال بأن روح القدس أوحى إليه بمقدمة كتاب الفتوحات، وهو يشعر دائماً بأنه ملهم وبأن ثمة صوتاً علوياً يكلّمه، ومن ذلك اعتقاده أن النبي قد لقّنه كتاب فصوص الحِكَمْ.