التصوف والرمز الصوفي والحب (أفكار غيرت العالم)


إن ابن عربي ينفي نظرية الفناء المطلق للأشياء والكائنات، كما ينفي نظرية الحلول، ويرى أن الواحد هو الكل، وذلك لأنه لا شيء سوى الله. وهذا ما حدا بابن عربي إلى نفي الفناء المطلق للموجودات، باعتبار أن الفناء لا يكون إلاّ بعد إثبات وجود شيء ما سوى الله، وهذا محال.

الإنسان عند ابن عربي هو أعظم وأكمل كائن بين الموجودات، وذلك لأن الإنسان من نفس الرحمن، وهذا يعني أنه خليفة الله في أرضه. وقد عمد ابن عربي في كتابه (إنشاء الدوائر) إلى تحديد موقع الإنسان في الكون، أي مرتبته في الوجود، ومنزلته عند الله.

وهذا يعني أنّ الإنسان ليس صلة الوصل بين الله والعالم فحسب، بل هو الصورة الإلهية في الأرض. ومع ذلك، فإن ابن عربي لا ينفي العبودية عن الإنسان، بل يؤكّدها. وقد رأى ابن عربي أن المحبّة هي المنطلق الأساسي لتحقيق الخلافة تواصلاً مع المطلق. ومن دون هذا الحب لا يصل العارف إلى المستويات العليا من التوحيد عبر الروح الأعظم.

والروح البشري إنما هو وليد النور المحمدي الذي يسري في الكائنات كلّها، وهو المخلوق الأوّل عن الله، أي صلة الوصل بين الله والإنسان. وهذا يعني أن النبي الكريم هو الإنسان الكامل وهو ذروة الكمال، وبالتالي يكون الإنسان أعظم الموجودات وأكملها وأفضلها.

يصدر ابن عربي عن ثقافة واسعة، واطلاع على التراث الإسلامي وعلم الأدوية والأفلاطونية والحديثة.

لقد وفقت نزاهته العقلية إلى تفهم حقائق الآراء والمذاهب والعمل من أفواه أصحابها.

كانت عنايته بالفكر والبيان أشد من عنايته بالأداء الشعري الرفيع. وهو يصل إلى المعرفة عن طريق الكشف والإلهام.

والإنسان، عنده، روح العالم وعلته وسببه وهو خليفة الله، ومفتاح كل شيء. لهذا فغن كل إنسان ملزم، فهو يصنع صورة نفسه، ومصيره بين يديه، وهو نتيجة عمله، وهو الدليل إلى الله وعليه. فمن ماهية الإنسان أن يدرك الحقائق ويتصرف بالأشياء، وهذا التصرف له صفة علوية لأنه تحقيق للأسماء الإلهية.

وكما أن الروح غائبة في الجسم، وهي المعنى العلوي للإنسان، كذلك الأشياء كلها لها معان هي كالأرواح؛ ولهذا كان الظاهر دليلاً على الباطن.

وتقدم العلم الحديث عزز فكرة ابن عربي من حيث فهمه للإنسان وبيانه جهة خلافته في الكون وإيداعه المسؤولية وسر الخلق والإبداع.

فالمعرفة الصوفية إذن لا تدرك الشيء في موضوعيته الخارجية ولكن تدركه من جهة دلالاته ومعناه.

والخيال إذن ملكة الرمز. والرمز قائم في كل مكان من الكون.

وكان يرى أن الخالق على بُعد من المخلوقات يساوي اللانهاية والصفر معاً.

فهو بعيد ومتعالٍ عنها من جهة الذات الأحادية المطلقة، وهو قريب إذا نظر إلى الأسماء الحسنى المتجلية في المخلوقات.

حرص المتصوّفون على التمسّك بفكرة الولاية لله، ورووا أحاديثَ عن الأنبياء والمرسَلين توضِّحُ شروطَها وتعرّفُ بطبيعتِها وتحدّدُ معالمَها.

ومن ذلك ما رواه " وهب بن منبّه “: " قال الحواريون: يا عيسى، مَنْ أولياءُ الله الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون؟ قال عيسى: الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها، والذين نظروا إلى آجل الدنيا حين نظر النّاسُ إلى عاجِلِها، فأماتوا منها ما يخشونَ أن يُشينَهم، وتركوا ما علموا أنّه سيتركُهم، فصار استكثارُهم منها استقلالاً، وذِكْرُهم إِيّاها فواتاً، وفرحُهم بما أصابوا منها حزناً. فما عارضهم من نَيلِها رفضوه، وما عارضهم من رِفعتها بغير الحقِّ وضعوه، وخَلُقَت الدنيا عندَهم فليسوا يجدّدونها، وخربت بيوتُهم فليسوا يعمّرونها، وماتت في صدورهم فليسوا يُحييونها بعدَ موتِها، بل يهدمونَها فيبنونَ بها آخرتَهم، ويبيعونَها فيشترونَ بها ما يبقى لهم، ورفضوها فكانوا فيها هم الفرحين. يحبّون اللهَ عزّ وجلّ، ويحبّون ذكرَه، ويستضيئون بنوره ويُضيئون به. لهم خبرٌ عجيب، وعندَهم الخبرُ العجيب. بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطقَ الكتابُ وبه نطقوا.

إن هذا الكلامَ المرويّ عن نبيّ المسيحية عيسى، لا يختلف بكثير أو قليل عما رآه الصوفيةُ المسلمون، ورووه في ثنايا تعاليمهم عن الفقر الطوعي الذي من شأنه زيادةُ درجة الشحن الانفعالي تجاه موضوع التأمّل الرئيس في تجربة التصوّف الدينية. ويُعَدُّ هذا المنهجُ أساساً هامّاً في كلِّ بارقةٍ صوفيّة، طمحتْ إلى الاستمرار والامتداد، عبر صنوف التّفكير الاعتقادي، انطلاقاً من قناعةٍ لا تحتاج إلى برهان، وتتمثَّلُ في أنَّ البلاءَ الحقيقي ينصَبُّ على ترك علاقاتِ البَدَن، ثمَّ التخلُّصِ من غِوايةِ النَّفْسِ الأمّارةِ بالسوء.

لذلك تركّزت غالبيةُ التعاليم الصوفيّة، حولَ محورٍ واحد، يدعو إلى سياسةِ النَّفْسْ. وبَدَتْ جميعُ الجّهودِ المصروفةِ عبرَ التجربة التأمّليّةِ المعرفيّة، منطلقةً في هذا الاتّجاه، الذي يفترضُ أنَّهُ أقصَرُ السبل للوصول إلى الخالق البريء من جميع الاحتياجات البدنية، ولا مجالَ إلى غوايته بوسوسةِ المشاعر اللذيذة.

وجهودُ متصوّفي هذه الحقبة، لم تقتصرْ على إِشاعةِ " أنماطٍ " سلوكيّةٍ، دون أخرى، في إِطار التعبير عن الارتباط بالخالق. بل جاوزت ذلك إلى دعم تجارِبها بالمأثورات المستمَدَّة من الإسلام وغيره، دون تفريق؛ معتبِرَةً الحقَّ واحداً -مهما اختلفت طرائقُ التعبيرِ عنه، ومهما تباينت أساليبُ التقرّبِ إليه والارتباطِ مَعَهُ. فظهرت طعومٌ مذهبيّة في بَوتقة التجربة الصوفيّة.

وأخذت الجهودُ النظريّة بالابتعاد عن تلك التي انحبست في دائرة التعاليم العملية، التي يتمُّ بها صرفُ الطّاقة النفسيّة في موضوعاتٍ سلوكيّةٍ مباشَرة، لاذّةٍ أو مؤلمة. واستأثر بالاهتمام جملةٌ من القضايا الفكريّة. وبدا موضوعُ التصوّف قد انفصل من مجرّد مخالفةِ السلوكِ الاجتماعيّ الشائع، واتّخاذِ سمةٍ شكليّة، وانتقل إلى طَور العناية بالتركيب النظري لتلك الأسس، باعتبار أنّ " الله " الذي هو " غايةُ " الجميع، كفيلٌ بالتقاء كافّة الجهود في مصبٍّ نهائيٍّ أخير، هو المطلق -مطمحُ كلِّ سالك.

واستُبدلت بالسلوكات الصريحة الواضحة حركاتٌ رمزيّةٌ غامضة، واشتدَّ الميلُ إلى تكريسِ القناعةِ القائلة بقصور اللغة عن التعبير المتعلِّق بهذه التجربة الدينيّة العميقة. فأنتج ذلك اتّجاهاتٌ، فيها الواحديّة والثنائيّة والكثريّة.

د. محمد جمال طحان 

 

Whatsapp