(في السّجن) قراءة في نَصٍّ للشّاعرة السّوريّة رودي سليمان


 

لقد أَرْخَتْ أوضاعُ البلاد بظلالها الداكنة على المفردة الشعرية أياً حلَّ قائلها وارتحلْ، فلقد غادرتِ الأجسادُ إنما الأرواح بقيَتْ تتقلَّبُ على جمر اللحظات، فكان القهر وكان الحزن وكانت مفردات الفجيعة حاضرة، وكان السّجن يتنقَّلُ في تجاويف الإدراك مهما نأت الأجساد عن مساحة الطّغيان التي لن تبرح مخيّلة الشّاعر ربّما لزمن آخر...

(في السّجن) نصٌّ للمبدعة (رودي سليمان  Rodi Sulaiman) وقد كان لافتاً للانتباه مقطعٌ من هذا النَّصّ نشرته الشاعرة على صفحتها في (الفيس بوك) منذ مدّة وجيزة، وقد كتبتِ صاحبةُ النَّصِّ معرِّفة بهذا المقطع: (مقطع من نَصّ ‎في السّجن، نصٌّ مترجمٌ إلى عدَّة لغات منها اللغة السويدية، كُتب في 2016)، هذا ويبدو الزخمُ (الفكري والشّعري) في النَّصِّ واضحاً منذ الجمل الأولى، فهي تستحضرُ السّجنَ والسّجينَ بطريقتها الخاصّة، ولا تخفى سخريتها المبطّنة من ذلك الواقع الذي لم يختره السجين على كل حال، ونشير إلى أنَّ السخريةَ المشار إليها هنا تذهبُ إلى فضاءات التهكّم الذي نخترعه لنقاوم به أنواع الألم العصيّة على كل دواء، ولنقل إنها ابتسامة التحدي التي نُطْلِقٌها في وجه السجان لإحباط مشروعه أولاً ولدعم أنفسنا من الداخل ثانياً، وهذا يجعلنا نتوقَّف مع كلِّ مفردة وما تحملُ من دلالاتٍ تقليديّة وما تُحَمِّلُها الشّاعرةُ من دلالاتٍ إضافية:

‎يتَّكئُ السجينُ على غيمة

‎رَسَمَها بإصبعه الوسطى في فراغ الغرفة

‎هناك، الهواء أَنْقَصَ بمروره حيّزَ القضبان

‎السّماء منخفضة

‎يلوّنها بألوانٍ كثيرةٍ تستهويه

‎ولا شكَّ أنَّ الصورة الشعرية قد اصطبغتْ بألوان السّخرية التي تُحِيْلُ إلى تَحَدٍّ صامتٍ في ظاهره، ويُنذر ببركانٍ في حقيقة أمره، وتُمْعنُ الشاعرة في الدخول في أعماق نصّها بذات الأسلوب غير المباشر فتقلبُ المعادلاتِ التقليدية لتنتج لغتها الخاصّة غير متجاهلة تحميلها دفقات مكثفة من الألم والقهر اللذين عاشهما ويعيشهما السوري في بلده وفي منفاه:

في السّجن، لا يأكلون

‎كي يزفّوا الأحلام بزقزقة أمعاءهم

‎ويوقعّوا صكوكاً بدمهم المُسال

وتتصاعدُ الحالةُ فتبلغ إحدى ذراها متلاعبة بالألفاظ بحرفية وتقنية واضحتين لتظهر لغة التحدي خلال ذلك (‎كي تدوس العالم بعمق)، ولعلّ استخدام الشاعرة للتعابير شبه الدارجة (أقدامهم أكبر) بطريقة أعادت بها قراءتها كما هي تريد لا كما تتداولها الألسن عادة، هذا ما أضاف لرصيد النصّ بعداً آخر يحسب لكاتبته:

هناك، أقدامُهم أكبر

‎كي تدوسَ العالم بعمق

‎وتحفرُ نقوشَ الهوان في تجاعيد الحياة

‎وعلى ذات المنوال تستمرُّ الشاعرة رودي سليمان بتتبع التفاصيل الدقيقة مسقطةً لحظات السّجن المعروفة على واقع تختاره بنفسها وتفسر حيثياته كما تشاء، وكأنما تريد أن تقول في كلّ لحظة إنَّ الأمور ليس كما يريدها السجّان بل هي إرادة السجين التي تتجاوز به واقعه الذي طالما بكينا وتباكينا عليه دون التفكير بما يفكر فبه السجين نفسه، أو كما ينبغي لسجين أوقعته نفسه التواقة للفجر في براثن الطغيان أن يفكر ويفعل، تتابع الشاعرة قائلة:

السّجناءُ

‎عيونُهم أجحظ كي تحرسَ الليالي 

‎وأصوات الرفاق 

‎وهم يذوّقون وجبات العذاب اليومية

‎السّجناء

‎نحيلو الخصر يحافظون على حلمهم بعيداً

‎في مكان ما بتلك الغيمة الوهمية

‎يعثون فسادهم الروحي على عتبات ذكرياتهم

‎وتأتي اللحظة الفاصلة، لتصرخ الشاعرة معلنةً ما يمكن أن نسميه (زبدة الكلام) أو خلاصته، جاعلةً من ذلك ومضةً لا نقول صادمةً بقدر ما نقول صادقة وصريحة التعبير مع ما تحمل الصراحة من ألمٍ في زماننا المحمّل بشتّى أنواع الخيبات وشتّى المسارات التي تفضي إلى مزيدٍ من الأسئلة والتساؤلات:

في السّجن

‎لا يمكن أن نكون كما نحن

‎إما نقوى

أو نصعد موتى للسماء 

إذن، فنحن السّجناء سواء داخل القضبان أم خارجها أمام خيارين لا ثالث لنا، فإما أن (نقوى) أو أن نموت ولا تقوم لنا قائمة بعد ذلك...

وآخر القول إنَّ الشاعرة رودي سليمان تمكَّنت من توظيف مفرداتٍ مألوفة ولغة طالما طرقتْ مسامعنا إنما بطريقتها التي جعلت لتلك المفردات والتعابير مذاقاً آخر ورائحة غير التي تعوّدنا عليها، وكانت كما أعتقد موفقة بذلك، فأنتجت نصاً مفعماً بالتحدّي والمشاعر التي تجاوزت حدود المفردات لتتغلغل في نسميه ما بين السطور وفي طيات الصور التي حملتنا إلى فضاءات مختلفة بعض الشيء عما ألِفناه في الكمِّ الكبير من سيل القصائد التي رافقت سنوات الحرب، وما كان من موت واعتقال ونفي وتشريد...

وبرغم أن ما تناولناه في هذه المساحة يخصّ مقطعاً وصلنا من نصٍّ متكامل إلا أنه باعتقادي يفي بنقل ما يدور في خيال الشاعرة وما تفيض بها مشاعر من غادرت بلدها، إنما روحها ومشاعرها لما تزل في زنازينه ومعتقلاته حيث ترتسم الصور المخزية لما يمكن أن يفعله الإنسان بمن يُفترض أن يكون أخاه الإنسان.

عبد القادر حمود 

 

Whatsapp