توظيف الأسطورة في الفن الحديث


لعبت الأسطورة دورا هاما في حياة الشعوب القديمة فتبدت في أشكال مختلفة شعرا ومسرحا ونحتا وتصويراً، فكانت أحياناً بمثابة كتب ونصوص مقدسة تتلى في معابد سومر وبابل وأشور ومصر القديمة. مع توالي الأزمان والحضارات فقدت الأسطورة وظيفتها الأولى في تقديم تفسيرٍ وتصور لظواهر كونية وطبيعية عاشها الإنسان الأول؛ غير أنها بقيت تنال قسطاً من القبول لدى الفنان والأديب فيجد فيها إطلالة على الماضي، أو أحيانا استشرافاً للمستقبل، فجعل منها مصدراً يلهمه فكرة لا تتطابق مع الواقع أو الحقيقة بالضرورة. استخدمت الأسطورة قديماً وحديثاً في شتى قنوات الفن فزينت موضوعاتها المختلفة الرسوم الجدارية والفسيفساء والأواني والزجاج والنحت البارز (الريليف) إضافة إلى اللوحات المعاصرة. تناول الفنانون المعاصرون الأسطورة القديمة بأشكال وأهداف مختلفة فمنهم من هدف إلى إحياء الأسطورة موضوعا وآخر عمل على إسقاطها على واقعه المعيش اجتماعيا أو سياسيا.

كان الفنان الفطري (أبو صبحي التيناوي) من أوائل الفنانين السوريين الذين صوروا شخصيات استعارها الخيال الشعبي الخصب من تاريخ القبائل العربية ليجعل منها أبطالاً، وينسب لها بطولات وملاحم وأشعار وأقاصيص كثيرة. اعتكف التيناوي عقودا عدة في دكانه الصغير ليرسم آلاف اللوحات تصور شخصيات بطولية من أمثال (عنترة) و (أبو زيد الهلالي) و (الزير سالم) وغيرهم، رسمها جميعا بألوان فطرية منتقاة لتزين الحوانيت والمقاهي والمنازل مذكرة دائما بما تراكم من صور وأشعار وحكايات خلال قرون طويلة في نفس الإنسان الشعبي معبرة عن احترامه للفروسية وقيمها من شجاعة وعفو وعدل وتوقه الدائم لسماع أخبارها وإن كانت تأتي من قديم الزمان.

نجد في تجربة الفنان مصطفى الحلاج تنوعا في استخدام الأسطورة فتعددت أهدافه بدءاً من عمله في لوحاته الأولى على إحياء بعض الأساطير القديمة ثم التطور إلى إسقاطها على موضوعات ترتبط بالقضية الفلسطينية وغيرها من الموضوعات الاجتماعية، ثم أصبح أخيرا يصوغ الواقع بحس أسطوري لا صلة له بأسطورة محددة موظفا مختلف الأساطير وأساليب الفنون في الحضارات القديمة في خدمة الواقع وتصويره، فاتجه إلى أساطير حضارات ما بين النهرين ومصر القديمة منتجا أعمالا كان مقاس بعضها عدة أمتار. من أشهر أعمال (الحلاج) (داجون والقمر) و(الفجر).

لعبت الأسطورة دوراً هاماً في مرحلة من مراحل تجربة الفنان (نذير نبعة) بل يمكن القول إنها رافقته طيلة مشواره الفني فتطور استخدامه لها بإتجاهات مختلفة فجمع في أعماله بين عناص أسطورية وأخرى واقعية معاصرة بأسلوب سريالي ورمزي ذي تقنية عالية. من أشهر أعماله (صرخة سيزيف) و(إنليل) و(كاهنة مردوخ).

يرفع الفنان (عبد الرحمن المزين) الواقع إلى مستوى الأسطورة في تجربته الفنية، فيصور انطلاقة الثورة الفلسطينية مطلع ستينيات القرن الماضي ومقاتليها كأبطال أسطوريين خارقين ليعكس بلوحته مضمونا واقعيا مصاغا بشكل أسطوري، يستعير قيما رمزية ودلالات قوية في تصوير الواقع فيقدم الديك الأسطوري كرمز للثورة إلى جانب العديد من عناصر الأسطورة الكنعانية. في تنوع باستخدام الأسطورة جنح (مزين) في بعض أعماله إالى تصوير الاساطير وشخصياتها تصويراً تسجيلياً واقعيا فصور (عناة) و(داجون) و(بعل) و(عليان دلعونة) رغبة منه في إحياء تلك الأساطير القديمة والتعريف بها بعيدا عن إسقاطها على الواقع.

أما في تجربة الفنان (إلياس زيات) فقد تحققت الأسطورة بصيغة متميزة لعلاقات روحانية وأشكال عفوية تنوعت مصادرها فاستخدم الأسطورة الشعبية معيدا صياغة الكثير من الحكايا والأقاصيص، كما استخدم خصائص النحت الآشوري وملامحه في إنجاز العديد من أعماله. من أشهر أعماله التي حوت تكوينات أسطورية تعبيرية عفوية (الشهيد) و(أكاد) و(الوحش).

جاءت ظاهرة استخدام الأسطورة في الفنون الحديثة لتكون بمثابة جسرٍ بين الماضي والحاضر، بين النص الشعري القديم وأدوات الفنان المعاصر من ألوان وأقمشة وتقنيات، بين الفكر الإنساني في مراحل الطفولة والنشأة ومراحل من النضج الفكري وبلوغ الأشد في فهم الواقع والحقائق. ستبقى الأسطورة دائماً مصدراً يستوحي منه الفنانون والأدباء صوراً تشعل فتيل خيالهم للتعبير عن واقعهم بأساليب واتجاهات وجماليات مختلفة.

يُسر عيان 

 

Whatsapp