الإبداع والحرّية


لم تكن وسائل الإعلام، في مملكة الطغيان الأسدي، تسمح لجملة مبدعة شردت عن منطلقات الحكم الشمولي أن تفلت من مصيدة الرقيب الأمنية، كان المقصّ جاهزاً لبتر الفكرة المتمرّدة، وربّما لقصّ أصابع مبدعها أو حتى رقبته.

كل كلمة ينبغي أن تشمّها الأنوف المدرّبة وأن تتعرّض لأشعّة العيون البصّاصة للأجهزة الأمنية، وكلّ صورة أو خبر حتى لو تعلّق بالموضة أو بحركة السحب يجب أن يصادق عليه، وأن يمرّ عبر المصافي الأمنية الدقيقة قبل أن يتابع مشيته العرجاء نحو النشر، كان الإبداع في كلّ المجالات رجسً من عمل الشيطان، فكلّ حركةٍ بأمرٍ، وأيّة كلمة بأمر ولو كان مقصوداً بها التذلّل والنفاق ونيل الحظوة.

والإبداع صفة إنسانيّة بما يعنيه من قدرة على التصوّر والخلق والابتكار، لم يكن للحضارة، لولا هذه القدرة، أن تتشكل وان تزخر بكلّ ما احتوته من ثقافات ومعارف وعلوم، ولم تكن لتوجد وتتطوّر جميع الوسائل والأدوات والتقنيّات لو لم يبتدعها الإنسان ويستخدمها في أعماله لتأمين احتياجاته المختلفة، بل لعلّها الحياة لم تكن لتستمرّ دون الإبداع الذي رافق مسيرة الإنسان منذ وجد على الأرض ليزوّده بما يحفظ أمنه ويضمن بقاءه واستمراره.

تبرز اللغة كأهمّ إنجازٍ إنسانيّ لأنّها غدت لا مجرّد وسيلة للتفكير والتواصل والتعبير فحسب، بل الأداة الأولى للفعل بما تمتلك من قوّة وقدرة على التأثير والانتشار والتغيير، فبها كان البدء وبها تكون النهايات، إنها الكيمياء في أرقى تجلياتها وأعقدها، لا حصر لعناصرها ولا حدود لمعادلاتها ولا نهائية في صيغها وتشكيلاتها..

وتبدو المخيّلة سماءَ زرقاء تتشكل فيها الغيوم لتغدو سحباً ممطرة، ولعلّها أشبه بـ "الاستديو" أو ربّما المختبر، غرفة مظلمة يتسلّل إليها ضوءٌ أحمرُ خافت حيث يتمّ خلط العناصر المختلفة لتظهير الصور السالبة التي التقطتها الحواسّ. لا يمكن تصوّر المؤثرات ومدى التفاعلات التي تكتنف عملية التخييل، كما لا يمكن توقّع ماهيّة الصورة وعلى أيّ نقطة ستستقرّ اللقطة، وإلى أين سيقودنا الشريط السينمائيّ وعمّا سيسفره العرض. إنّه سحر الكيمياء وغموضها مرّة أخرى.

وإذا كان الإبداع سمة الإنسان، وكانت اللغة أداته الأولى للفعل، كما أنّ المخيلة مختبر حواسه، فإنّ الحرّية شرط وجودٍ لإنسانيته ولقدرته أيضاً على الإبداع والتخييل. لا يمكن للإنسان المستعبد المقهور أن يحقّق شرط وجوده وأن ينال حرّيته دون قرار شجاع وإرادة صلبة، وفي اللحظة التي يمتلك فيها إرادة التحرّر ويتخذ القرار سيحصل على حريته ويستردّ ما فقد من إنسانيّته بما يمكّنه من إبداع الوسائل والأدوات والآليات التي يستكمل بها صورة حلمه الإنسانيّ في حياة تسودها قيم الحقّ والخير والجمال التي أرادها وهيّأه له الله.   

 
Whatsapp