الإبداع والثورة


في أنظمة الطغيان تسود البشاعة والتفاهة، وتهيمن أشكال النفاق والرياء والزيف، يخلّق الاستبداد أنماطاً من الإنتاج والسلوك تكرّس منهجه الاستحواذي، وتعزّز أساليبه وآليّاته القمعيّة، كذلك ينتقي من (الأراجوزات) من هم على شاكلته ويحملون جيناته المشوّهة لتمجّده، وتجمّل صورته القبيحة، وتساهم في تعويمه وتطبيع وجوده وسلطته المتوحشة.

وكنتيجة طبيعيّة للعنف المبالغ به وللتضييق المتزايد الذي تمارسه أجهزة الطاغوت على الشعب يحدث الانفجار الكبير، تجيء الثورة زلزالاً عنيفاً يخلخل البنى المتكلسة للاستبداد ويفتتها، وتنطلق كإعصار يطيح بهذه البنى ليستبدلها، وليكنس عوامل التخلف وآثار العجز والفساد، ويطلق سراح العقل والقدرات الجبارة الكامنة كي تنطلق نحو البناء.

والثورة في سيرورتها تنبش فيما تراكم من ردميّات عبر عقود من التخريب الممنهج طال كل مرافق الدولة والمجتمع، وترفع الغطاء عن المستور لتنكشف حقيقة الدمار المرعبة، ولتتساقط الأقنعة الملوّنة الخادعة تماماً كتساقط أوراق الأشجار في الخريف عن جسد الوطن المصلوب والمدمّى.

ولعلّ الثورة الأهمّ هي ما يحدث في ذات الإنسان وفي بنيته الفكرية والمعرفية والسلوكيّة، فالثورة ناتج وعي حقيقي وثقافة مغايرة تنبذ الأضاليل وتحطم أوثان الخرافة والجهل، وتنطلق من أصالة مغيّبة وصولاً إلى الحداثة والتجديد.

والثورة إبداع مستمرّ في المجالات كافة فمن يقوم بها هم الشجعان المبدعون الذين يبتكرون أدواتهم ويستنبطون آليّاتهم القادرة على إعادة صياغة واقعهم، وترتيبه وفق رؤية جديدة تجسّد حلمهم في التغيير نحو عالمٍ إنسانيّ تسوده العدالة وقيم الحقّ والخير والجمال.

إنّ الكتابة وسائر الفنون الإبداعية تتطلب خروج المبدع من محرق الحدث إلى شرفة عالية تطلّ عليه، لتتشكل رؤيته الواسعة العميقة، وليمتلك أجنحته القادرة على التحليق بعيداً عن الوقوع في دوامة المأساة والغرق في وحل الفجيعة.

إنّ الخروج من شرنقة التجربة والتخلص من أهوالها ومن براثنها الفتاكة، يشبه عمليّة الخروج من الرحم في الولادة بما يكتنفها من آلام وخوف وقلق ودماء.

لقد غادر المبدع صدفته المظلمة لكنّه عاش التجربة حقاً بكل تفاصيلها وكان قابضاً على جمرتها بقوة وحزم، لم يكن هذا المبدع بمعزل عن الثورة وعن حراكها في كلّ الميادين، وقد أفرد لها فضاء روحه وعقله وثقافته، وجنّد لها جسده وحواسه وأدواته، وشارك أبناء وطنه بها وبما يملك من إيمان بحتميّة انتصار قضيتهم المحقّة ومطالبهم المشروعة في الحرية والعدالة والكرامة.

لقد سجل معاناتهم وأحاسيسهم، وخلّد لحظاتهم الفارقة وتفاصيل أيّامهم المشبعة بالمشاعر الإنسانيّة، فكان بهم ومعهم، استقوى بقوتهم واستنهض عزيمتهم وعزّز ثقتهم بالنصر.

والثورة حكاية تستعاد بمفردات حيّة تنبع من معين الألم وتصبّ في محيط الأمل والإصرار على حياة تليق بفطرة الإنسان، قد يحتاج المبدع زمناً لتنضج رؤيته وتختمر تجربته فيما عاشه وشهده من أحداث ومواقف وتفاصيل، سيعوزه الوقت لينتقل من ضفّة الانفعال إلى ضفاف التأمل والفعل، حينذاك موجة إثر موجة من الاخضرار والإزهار يبدأ الربيع الحقيقي للإبداع الأدبيّ والفني.

 

علي محمّد شريف

رئيس القسم الثقافي

 
Whatsapp