هل يفور التنّور


غالباً ما كان الرجل يشعل النار ويلقمها الحطب، وكانت الأم تمتح الماء وتطفئ غلّ النفوس والحيطان، وتبرّد الأرض المصقولة بالإسمنت.

التنّور والبئر جاران لصيقان. هكذا كانا في دارة جدّي في حيّ الكلاسة في حلب، وأيضاً في العديد من الدور القديمة المجاورة التي زرتها. لا تكاد تنتهي أعمال الخَبز حتى يعقبها متح الماء ودلقه على الأرض والحيطان وعلى الأجساد المشبعة باللهيب والعناء.

كنت طفلاً حين رافقت عمّتي في زيارة أقرباء لنا في القرية، لا يمكن تخيّل السعادة التي عشتها خلال أسبوع كامل استغرقتها تلك الرحلة، كانت الدهشة حدثاً يتكرّر في كلّ يوم وساعة، بل وفي كلّ لحظة. تفاصيل مبهرة ومختلفة لعالم جديد شائق أكتشف تفاصيله في كلّ ركن وزاوية، في ملامح الناس ولكناتهم وملابسهم، في البيوت و"البازار" والطرقات والحواكير، وفي السهوب والأودية والجبال المحيطة ببلدة "دارة عزّة" المتربعة على سفح جبل "الشيخ بركات" قريباً من دير وقلعة سمعان الأثرية، وكانت المرّة الأولى التي أتيح لي فيها بفضل ابن الخال صلاح أن أمتطي حصاناً، كان حدثاً عظيماً لابن المدينة الأهيف أن يعتلي صهوة حصان جموح يرفض الانقياد إلاّ لفتىً ممتلئ قويّ ومتمرّسٍ كصلاح يعيش حياة الريف والبرّية بكلّ قسوتها ومتاعبها ومفاتنها ورحابتها.

لم يطل مشوارنا ذلك اليوم كثيراً فالمسافة من بيت الخال إلى حاكورته لم تزد عن عشر دقائق قطعتها العائلة مشياً، وكنت الراكب الوحيد أتمايل على ظهر الحصان كما لو أنني في مرجوحة.

الحاكورة، وقد خبرتها وشهدت التحوّلات والتغييرات التي أصابتها فيما بعد، لم تكن أكثر من مزرعة فسيحة فيها أشجار الزيتون والتين وعرائش العنب وبعض المساحات الصغيرة المخصصة لخضروات المواسم، كنّا في أواخر الصيف حينها، وكانت مهمّة ابن الخال الاعتناء بي وتسليتي فيما انصرفت النسوة إلى تصريف الأمور وتوازع المهام بين القطاف والحشّ والعزق والسقاية، وجمع الأغصان اليابسة. لكنّ المهمّة الأكبر كانت صنع الخبز، فما بقي منه لا يكفي لطعام اليوم.

لم يتغيّر مشهد الخَبز المليء بالثرثرة والضحك والغناء عمّا ألفته في دارنا في المدينة، فمن عجن الطحين وانتظار اختماره إلى سجر التنور بالحطب وإيقاد النار فيه، إلى دعك العجين وتقطيعه كراتٍ متماثلة وترقيقها ووضعها على "الكارة" وإمساكها من مقبضها في الخلف ثمّ خبطها بقوة في جوف التنور اللاهب ليلتصق العجين الملبس بها على جداره المنحني حتى يشوى وينضج ويتحوّل لرغيف شهيّ ليصار إلى نزعه ووضعه فوق أقرانه على طبق القشّ المزركش بألوان الفرح.

سينتهي هذا الطقس السحريّ قبيل الغروب بحفل مجلجل من جلب الماء وسكبه على أرض الدار وحيطانه تنظيفاً وتبريداً ولن يخلو المشهد من تراشق الصبايا بالماء والضحكات المنهمرة كشلالات من العذوبة والصفاء تخفّف الحرّ، وتزيل ما يعلق على السواعد والوجوه المحمرّة من نزق وتعب.    

لقد اندثر التنّور وردمت الآبار في منازل المدينة بعد أن استبدلت بالأبنية والمجمعات السكنية والتجارية بفعل الازدياد الطبيعي في عدد البشر وفي حاجاتهم المتنامية، ونتيجة التطوّر الذي طرأ على أساليب الإنتاج وأدواته، وكذلك الحال في أغلب القرى والأرياف التي بدأت تفقد كثيراً من هوّيتها وخصائصها المميّزة، بل إنها تحوّلت إلى ما يشبه المدن الصغيرة في عمرانها وشوارعها وساحاتها وأنماط حياة أبنائها السلوكيّة والمعاشيّة المختلفة.

نعم، غارت الماء النقيّة إلى حيث لا ندري، واختفى التنّور من بيوتنا ومن حواكيرنا، ليصبح مشهداً تراثياً، أو لنقل متحفيّاً مثل كثيرٍ من قلاعنا وأوابدنا وقيمنا ومبادئنا التاريخيّة العريقة، غادر التنّور تفاصيل حياتنا اليوميّة التي كانت أكثر إنسانية وبساطة لكنّه لم يذهب بعيداً، فقد تحوّل إلى مرجل يمور غلاً وحقداً وضغينة، انتقلت ناره من تجويف طينيّ لتستقرّ في قلوبٍ غلف وصدورٍ ضيّقة صدئة. فهل نستعيد إنساننا المضاع أم أنّ الطوفان آتٍ وقد آن الأوان كي يفور التنّور.

علي محمّد شريف

رئيس القسم الثقافي

 

 
Whatsapp