الجولان سوريّ يقيناً لن يغادرنا القلب


في البدء كانت. لم تكن ثمّة بلاد ومدائن وقرى حين لملمت النار أطرافها، وانكفأت إلى جوف عميقٍ كتلةً من لهيب يمور، ابتردت عروس الكون وتهيّأ الرحم التائق والمتوفّز للميلاد.  

ما إن انحسر الماء عن جسد الأرض وحطت السفينة على الجوديّ، حتى نبتت مثل قرنفلة على صفحةٍ ما تزال تتعثّر ببياضها. حين استوت على عرشها "الشآم" كانت الشمس ما تزال ترتجف من صقيع الوحشة والخوف، نهض من مكمنه "سوريا" فكان لنورها حارساً، وملاكاً يؤنس وحدتها ويقبس من دفئها، يملأ كفيه من ذهبها لينثره على كتفي حبيبته فتخضرّ وتزهر الذرى والسفوح والوديان.

هكذا وجدت أوّل البلاد في تاريخ البشريّة لتسطّر اسمها في ذاكرة الأرض. منها انطلقت القوافل وإليها حجّت الوفود لتكون سرّة العالم تمتدّ منها أوردة الحياة والحضارة إلى جهات الأرض جميعها.

وليس الجولان مجرّد تفصيلٍ في مدونة التراب السوريّ، ولا مكاناً عابراً لحدود الوجد والوجود، إنه تضاريس الحلم وعبق الجغرافيا، إنّه قلب القلب وشرفة الروح التي تطلّ على فتنة الجسد، هو عين للحقّ لا ترفّ ولا تغمض، وهو شلالات الحقيقة الباذخة حين تضنّ بمائها قوارير العدالة.

نعم، لقد سلّم حفيدُ سليمان اللقيطِ، طاغية الشام، أرضَ الجولان السوريّ للكيان الصهيونيّ الغاصب لفلسطين مقابل وصوله إلى السلطة، لكن لم يكن بمقدوره، وليس باستطاعة أحد كائنا من كان، منح صكّ تمليك وطننا أو أيّ جزء منه للغزاة والطامعين.

لا يوجد توصيف للسياسة الأميركية إزاء القدس والجولان، ولدعمها المطلق لإسرائيل ولأنظمة الطغيان في العالم، سوى بأنه بلطجة رسميّة تمارس القوة القهرّية بحقّ الشعوب المستضعفة في محاولة لسلبها حقوقها وإراداتها في الحرية والعدالة.

بل إن اعتراف أميركا الرسمي بسيادة إسرائيل على الجولان المحتلّ يمثل خروجاً على القانون الدوليّ وعلى الأعراف الديبلوماسية، وهو خرق للمعاهدات والاتفاقيات والقرارات الدوليّة.

لم تكن سهلةً مهمّة المصلحين والمفكرين، وفقهاء القانون المتمثلة في سعيهم لتطوير النظم والقوانين، وإيجاد التشريعات، والآليّات التي يمكن من خلالها تطبيق مبادئ العدالة والمساواة وضمان الحقوق للأفراد والشعوب.

لكنّ سموّ القوانين الدولية ورفعتها، وسيادتها على القوانين الوطنية لا يعود إلى المبادئ، والقيم الإنسانيّة الحاملة لها، أو إلى كونها تجسيداً لإرادة سكان الأرض بالامتثال لقواعدها فحسب، بل إنّ صفة الإلزام التي تتحلّى بها تلك القوانين هي ما يضمن لها دوام السموّ والرفعة، والهيبة والاحترام بما يكفل التقيّد بمضامينها وصولاً إلى تحقيق غاياتها في العدل والسلم.

لا قيمة واقعية للقوانين الدوليّة إن لم تؤيّد بالآليّات التي تكفل فرض تطبيقها، واتخاذ الإجراءات الرادعة بحق من ينتهك بنودها. ولا معنى للقواعد والأحكام الواردة فيها دون إمكانيّة تطبيقها، فحتى تعاليم الإله لم يكن ليكترث بها كثيرٌ من المؤمنين لولا اقتران أفعال الخير بالثواب، والشرّ بالعقاب.

لا يمكن لحبر الطغاة المدنّس أن يطمس لغة الوجود المسطّر بدم الولادة، ولا أن يغيّر من قدر الجغرافيا وقضاء التاريخ، وليس للمارقين وشذّاذ الآفاق أن يفرضوا على الوالدين جيناتهم الملوثة بالخيانة، وعارهم الملتصق بسحناتهم المستوردة.

الجولان سوريّ القلب والوجه واللسان، ثمّ إنّ الحقّ الطبيعيّ والقانوني القاضي بهويّة الجولان السوريّة باقٍ ما بقي الدهر، ولن يغيّر في طبيعة هذا الحقّ مرسوم أو قرارٌ يصدر عن أيّة جهة سواء كانت أميركا أو غيرها.

إنّه الجحيم، الذي تأخر كثيراً، ما ينتظره الطغاة والمجرمون، بدأت الشعوب تعي وتدرك أسباب عجزها وتخلفها وهزائمها، لا وقت لانتظار فجيعة أخرى وقهرٍ جديد، ستتدحرج كرة النار لتحرق العروش المؤسسة على الخديعة والظلم والخيانات، فطريق التحرّر يسلكه الأحرار، وهؤلاء وحدهم من سيخوض معارك الحرية والتحرير.

 

علي محمّد شريف

رئيس القسم الثقافي

 

 

 
Whatsapp