لن أدخل في حيثيات الثورة التي انطلقت منها وعلى أساسها، بل ما يهمني اليوم هو التحولات التي طرأت على الظروف التي واكبت انطلاق الثورة (موضوعياً وذاتياً) إضافة إلى العوامل المحيطة إقليمياً ودولياً، التي كان لها الوقع الأكبر على مسيرة الثورة ومستقبلها.
من دون أدنى شك فإن الظروف التي انطلقت عبرها الثورة كانت ناضجة جداً قياساً بأوضاع النظام الذي كان يعاني من الفساد المنتشر عمودياً وأفقياً في كل مؤسساته الدولة، ولم تبق له أية ركيزة شرعية تؤهله للبقاء، فقد كانت تدار الدولة خارج إطار القوانين والدستور في داخل كل مؤسساتها التشريعية والقضائية والتنفيذية، من قبل مجموعة مستفيدة ومتنفذة تتحرك في دائرة ضيقة، جعلت من البلاد مزرعة، ومن الناس شبه عبيد، داخل سجن كبير، منزوعة الإرادة ومجهولة المصير. انطلقت الثورة لوضع نهاية لمأساة شعب لم يعد يتحمل أكثر ما تَحَمًل من العذابات، على يد تلك المافيات المنظمة تحت مسميات مختلفة.
القائمون والناشطون فيها كانوا على يقين أن السبيل الوحيد الذي يؤهل الثورة للانتصار هو السلمية في حراكهم كشكل من أشكال الانتفاضة، ضد كل ممارسات النظام. إلا أن النظام أدرك ذلك عندما حاول اختراق صفوف المتظاهرين بشبيحته المسلحة والقيام بعملية اغتيالات ممنهجة لدفع الثوار نحو ممارسة العمل المسلح، إلى جانب تركيز كافة وسائله الإعلامية نحو إبراز المشهد على أنه " ليس إلا احتجاجات شعبية لها مطالبها المشروعة، والنظام يستعد لتلبية تلك المطالب، لكن دخول الإرهابيين بالآلاف إلى سوريا عبر حدودها لاستغلال تلك الاحتجاجات من أجل خلق الفوضى في البلاد والنيل من موقف النظام القومي والوطني خدمة لأعداء سوريا تجعلنا أن نتمسك بالدفاع عن مواطنينا ومحاربة الإرهاب أولاً." وهذا حسب وصف النظام.
إلى جانب ادعاءاته هذه استنجد بالروس، من خلال المساومة على سيادة الوطن للتسلح دبلوماسيًا في مجلس الأمن وأمام المجتمع الدولي متنكبًا (الفيتو) الذي يمتلكه الروس للتحصن به أمام أي قرار يصدر من المجلس الأمن. ثم استغلت إيران فرصتها للتدخل عسكريا من أجل الحفاظ على خطوط التواصل مع حزب الله في لبنان، والتمسك بالنظام الموالي لها والحفاظ عليه بكل السبل، حيث تحدث الايرانيون على الملأ " سقوط دمشق يشكل التهديد المباشر لطهران، وأن دمشق هي الجبهة الأمامية للدفاع عن إيران “.
مع دخول طهران عسكريا أبدت إسرائيل (مخاوفها على مستقبل سوريا) فتحركت هي الأخرى دبلوماسيا مع روسيا وأمريكا، ومن الممكن أن تكون هي من دفع بأمريكا الدخول إلى سوريا بعد التدخل الإيراني وتطوع حزب الله اللبناني للدفاع عن الأسد، وذلك من خلال مشروع محاربة الإرهاب ضمن تشكيلة تحالف دولي بدءً من تحرير (كوباني – عين العرب) من سيطرة "داعش" عام 2014. ومع تلك التدخلات الإيرانية / الروسية أبدت العديد من الدول العربية مخاوفها على مستقبل سوريا، وتحركت من منطلق مصالحها الإقليمية تجاه الصراع، ودعمت ثم بنت مجموعات مسلحة من المعارضة لتزيد من الخلافات والاختلافات داخل المعارضة المختلفة (السياسية والمسلحة) إلى جانب تعاظم قوات "داعش" بعد سيطرتها على الموصل العراقية والحصول على كم هائل من المال، وترسانة من الأسلحة والمدرعات، وكذلك جبهة النصرة التي تنافست مع الجيش الحر على المناطق المحررة من النظام. كل ذلك أوقع الثورة في مخاض عسير فضيعت جماهير الثورة فرصة الانتصار على النظام نتيجة مخاوف الدول من مستقبل سوريا (المجهول المخيف) "من سيحكم سوريا؟".
وفي ظل تعاظم دور قوات الإرهاب والمتطرفين من جهة، وتمسك الروس والإيرانيين بالنظام على حساب مصالح الشعوب العربية والشعب السوري أولاً والخطر الذي سيتشكل على إسرائيل حسب ما تمظهرت به الدولة العبرية. تغيرت المسارات والمآلات الدولية والإقليمية. وبقيت تركيا على الجانب الآخر من الحدود، والتي كان من الأولى لها أن تتدخل نتيجة للعوامل الجغرافية والثقافية والاجتماعية والتاريخية، إضافة إلى الحفاظ على أمنها القومي، بعد أن أصبحت سوريا (دولة اللادولة وملعبًا لصراعات دولية مختلفة ومتناقضة) حيث كان من صالح الشعب السوري وثورته أن تتدخل تركيا منذ بداية الثورة، إلا أن الظروف الدولية لم تكن مواتية على ما يبدو حسب (محللين أتراك). فكان تدخلها العسكري عبر تفاهمات دولية ومن خلال لقاءات وقرارات أستانة لتأخذ المكان المتقدم على طاولة التفاهمات الدولية المستقبلية في مصير سوريا.
مع هذه اللوحة تكون الثورة قد دخلت في مخاض عسير، وعبر صراعات في جوانية الإرادة الدولية، حيث الإرادة الدولية هي الأخرى لم تتوحد، وفي صراع بيني، وباعتقادي فإنه مع ولادة الإرادة الموحدة لتلك الدول ستولد الثورة من جديد وتأخذ طريقها نحو الانتصار.
أحمد قاسم
رئيس القسم الكردي