الثورة السورية بين الربيعين


السؤال الذي يطرح نفسه في هذه الفترة ويتداوله الناس بكثرة حاليًا يدور بصيغ مختلفة عما آلت إليه ثورات "الربيع العربي" التي انطلقت عام 2011 بعد ثماني سنوات، وعن موقع ثورتنا السورية بينها، وتأثيرها فيما يمكن اعتباره "الموجة الثانية" من الربيع العربي.

غالبًا ما تتراوح الاجابات بين إلقاء المسؤولية في إجهاض الربيع العربي على النظم العسكرية والزمر الاستبدادية الفاسدة الممسكة بالأنظمة العربية في مصر وسورية وليبيا واليمن وتونس. وهناك من يضيف إليها القوى الدولية الكبرى ويتهما بالتآمر على بلداننا وشعوبنا وثوراتنا بشكل جاهز ودائم.

 ومع التأكيد على دور هذه القوى الداخلية والخارجية بدرجات متفاوتة ولأسباب مختلفة في إجهاض الثورات الشعبية الخمس المذكورة، إلا أنها في الواقع تتفادى التشخيص العلمي لأسباب الفشل الذي انتهت اليه. وإذا شئنا الدقة والموضوعية في الاجابة فلا بد أن نحمل المسؤولية لجماعات ما نصطلح على تسميته علميًا ( الاسلام السياسي ) بكل تلاوينها، خصوصًا وأن التطورات والوقائع المتجددة  في الساحة العربية والاقليمية تؤكد أن كافة هذه الجماعات تتضامن وتتعاضد في إطار استراتيجيتها لإعادة أسلمة الدولة والحكم والسياسة في العالم الاسلامي، الذي يمثل مقصدًا شرعيًا وعقائديًا لها جميعًا كما تبين مناهجها ومرجعياتها ونظرياتها الدعوية والإيديولوجية، منذ التأسيس في عشرينيات القرن الماضي وحتى سيد قطب، ونظريات أبي الأعلى المودودي التي ترجمت للعربية، وأنزلت على الواقع بشكل جزافي متعسف ، وانتهاء بأفكار الفقهاء الشيعة الفرس والعرب ( وخاصة علي شريعتي والخميني) .فكل هؤلاء يلتقون في المقصد والغاية العليا ، أي في إعادة أسلمة السياسة والسلطة والدولة ، للعودة إلى نظام إسلامي جامع على شكل خلافة أو  ولاية الفقيه  .

من الثابت الآن سياسيًا أن هذه الجماعات تعاونت فيما بينها ضمن استراتيجية عقيدية واحدة، ضد الأيديولوجيات والاستراتيجيات المنافسة، وخاصة القومية، والديمقراطية، والاشتراكية، وترى فيها تبعية للثقافة الغربية، ونقيضًا للإسلام الأصولي والسياسي لا يحقق مصالح الأمة. وقد رأينا وما زلنا نرى أوجهًا تطبيقية للتعاون. وهو تعاون ازداد وتطور بعد موجة الربيع العربي الأولى، وتمثل في تبادل الدعم والمساندة بين تلك الجماعات على كل الأصعدة، مما مكنها من القفز الى السلطة في تونس ثم مصر ثم ليبيا ثم اليمن، وأخيرًا في سورية.

 ولم يتم الأمر بطريقة ديمقراطية وعبر صناديق الاقتراع دائمًا، بقدر ما تم بطرق متعددة استغلت فيها المؤثرات الاعلامية والمال السياسي والدعم الخارجي، كانت محاولة مدروسة لإضفاء شرعية على الدور الايراني الاجرامي في عموم المنطقة، وخاصة سورية. وقد اعترف البعض من المعارضة السورية باستمرار لقاءاتهم مع الايرانيين منذ عقود، والى ما بعد ثورة 2011 ورغم اتضاح الدور الايراني في قهر الشعب السوري، ووقفت الجماعة نفسها حامية لدور هيئة النصرة الارهابية في سورية، وسخرت نفوذها في (المجلس الوطني) لمنع إدانتها بحجة أن كل بندقية ضد الأسد بندقية وطنية. ولم يكن صدفة أن تستمر علاقات حركة النهضة الاسلامية التونسية بإيران لليوم، رغم ما ارتكبته في بلدان عربية كثيرة، وأن تتحول حماس الفلسطينية بيدقًا في أيدي الايرانيين، وغزة قاعدة نفوذ لإيران بكل أسف. ولا نريد أن نواصل الشواهد على علاقات التنسيق فقد صارت جزءً من الواقع المكشوف والتاريخ ، وهي التي خطفت الثورات الشعبية العربية ، وأخرجتها عن مسارها الديمقراطي الاصلاحي الوطني ، وأفرغتها من محتواها الاجتماعي ، وسخرتها لخدمة استراتيجية أصولية سلفية ، ثم طائفية ، مما تسبب بتفكيك عرى اللحمة الوطنية داخل المجتمع الواحد ، وأوجد بيئة لانتشار التكفير والتطرف والارهاب، وجعل العالم يدير ظهره لنا، ويفضل بقاء الأنظمة البائدة المجرمة على انتصار ثورات تقودها جماعات دينية  رافضة للديمقراطية ومعادية للغرب ، مما سهل عمليًا على الثورات المضادة ضرب الربيع العربي وشيطنته ووصمه بالطائفية والتطرف ، وساعد العسكر وزمر الفساد والطغم الاستبدادية على العودة للسلطة وخاصة في مصر وليبيا . 

إلا أن صمود الثورة السورية حتى الآن هو الذي أظهر تميزها عن بقية الثورات المجهضة، وها هي ثورات الموجة الثانية من الربيع العربي تثبت أن صمود الثورة السورية ألهم جماهير السودان والجزائر ودفعها للشارع (كما ألهم الشعوب الايرانية أيضًا)، رغم محاولات الشيطنة والتخويف التي مارسها نظاما البشير وبوتفليقة.

كانت الثورة السورية آخر من التحق بموجة الربيع العربي عام 2011، ولكنها الآن تتقدم الموجة الثانية بعد أن أصبحت الجسر الواصل بين الموجتين. ولا شك أن الربيع العربي سيستمر حتى يتغير وجه المنطقة بالكامل لا مجرد سقوط الأسد والسيسي، وتتحول الى الديمقراطية والحداثة والحرية، لأن هذه القيم هي التي تعبر عن حركة التاريخ والتطور.

 

محمد خليفة

كاتب سوري

 

 
Whatsapp