شجرةٌ أحْرِقَتْ.. ثُمَّ أَوْرَقَتْ


ملاحظة أوليّة

الشجرة المحترقة والبراعم النابتة حولها، هما حقيقة واقعة، لا جدال فيها. أما محتوى النص فهو من نسج الخيال، ولا يدخل في باب التصديق أو التكذيب. لأنه إيحاءاتٌ أدبية دالّة أو مرآةٌ تشير إلى ما يجري على أرض الواقع في شامنا المنكوبة".                        

الـنـصّ

منذ أيام قليلة رأيت ما رأيت، فأعطاني شحنة جديدة من الأمل، وأكد لي أن الإرادة التي لا تقهر هي من إرادة الله، وسأروي لكم ما رأيت.

منذ عهد بعيد اعتدتُ المرور كثيراً من أحد شوارع المدينة، وبعد بداية الانتفاضة الشعبية سميته مازحاً "الشارع السياسي"، نظراً لما يتميّز به من حراك وانفتاح، وحوار وجدال، واتفاق واختلاف، ورفض وقبول.

في هذا الشارع توجد شجرة، كانت فيما مضى منتصبةً على الرصيف الشرقي بقامتها الراسخة وأغصانها الخضراء.  

وكانت الشجرة قرب متجر متفرّد عن غيره شكلاً وبضاعةً. أما صاحب المتجر، فتروي الحكايات أن جَدّه الثالث عشر جاء من خُراسان، ويُروى أيضاً أن صاحب المتجر نفسه لا يُعرف له لا أصل ولا فصل.

في غفلة من الزمن، استولى ذلك الذي لا أصل له ولا فصل على المتجر بالحيلة والدهاء. ثمّ بالقوة والغَلَبة أصبحت الشجرة من ممتلكاته الخاصة، وأخذ يتصرّف بها كيفما يشاء، ويستأثر بثمارها وظلالها، هو وحاشيته وأعوانه، دون غيرهم من عباد الله.  

ومنذ ذلك الحين أطلق الناس عليه "شهبندر المكان".

بعد زمان طويل مات "شهبندر المكان" غير مأسوف عليه، فأمسك ابنه "شهبندر الثاني" إدارة المتجر. توهّم الناس أن الأحوال ربما تتحسّن لكن خاب فألهم. فكيف ذلك.!؟.

حدث أن حضرة "شهبندر الثاني" صار يتأذّى من منظر تلك الشجرة، ويرى في وجودها نوعاً من الإعاقة أو التحدي لمقامه الكريم، وهي، كما يقول، قليلة الأدب، وتسعى لتخريب متجري الزاخر بالبضاعة النادرة.!!.. ولكي يُقنِع الناس، كان يقول: كلما داعبها الهواء، تمدّ تلك الشجرة أغصانَها بوقاحة، فتتحرك الأغصان، وتندسّ داخل متجري دون إذْن أو دستور، وتعبث بمحتويات المكان، ولاسيما دفتر حساباتي وجدول أعمالي ومخططاتي الباطنية.  

هكذا برّر "شهبندر الثاني" لقراره قطْعَ الشجرة، وأخذ ينفّذ ما قرر.

نظر بتكبُّر إلى أوصال الشجرة المقطوعة، فانبسطت أساريره، وقال في نفسه: مِشِي الحال.. تخلّصتُ منها. كان الغرور الأحمق قد تملّكه.

لكن أحد أتباعه باغته قائلاً: يا معلمي.. نحن في فصل الخريف، الربيع القادم وقد تنبت الشجرة من جديد.

ارتجف "شهبندر الثاني" غَضَباً وحقداً، وأسرع إلى وعاء المازوت، صبّ كمية كبيرة منه على الجذع المقطوع، وحاول إحراق ذلك الجذع، فلم يحترق كما يحب حضرته ويشتهي.

تدخّل أحد المموّلين قائلاً بلكنة غريبة: لا تُشغِل بالك يا شهبندر المكان. لديّ مزيج من الوقود يحرق الأخضر واليابس، ولسوف يفي بالغرض. ثم ناوله المزيج، فصبّه على جذع الشجرة، اشتعلت النيران وارتفعت ألسنة اللهب، لكن الجذع قاوم واستعصى، وأبى أن يحترق بشكل كامل.

ثم جاء مموّلٌ آخر، وقال له بلكنة أشد غرابة: أنا عندي مادة حارقة تُعجِبُ خاطرك، لم يستخدمها أحد من قبل، لكن ليعلم مقامك العالي أن هذه المادة غالية الثمن، والدفع "كاش"، وبالذهب الإبريز حصراً. سرعان ما أجابه "شهبندر الثاني" برعونة وتهوّر: الْحَقني بها فوراً، وخذ من ذهبي ما تشاء.

أخذ حضرته المادة الحارقة. صبّها بسرعة على الجذع فاحترق بشدّة متحوّلاً إلى فحمة سوداء.

تنهّد " شهبندر الثاني " بارتياح، وأَتبَعَها بضحكة هستيرية، ثم قال: الآن تخلّصت من الشجرة إلى الأبد".

اعتقد كلُّ من رأى ذلك الجذع المتفحّم أن الشجرة شبعت موتاً ولن تنهض مرّة أخرى. لم يفطن أحد إلى أن تربة الأرض الطيبة ما زالت تحتضن جذور الشجرة، وأن كليهما معاً راحا يتناغمان ويتعانقان كأنهما عاشقان خالدان.

مرّ خريفٌ جاف، ومن بعده شتاء قارص، دون أن يدري لا "شهبندر الثاني" ولا أشباهه وأعوانه أن أَجِنّةً شجريّةً تتهيّأ للتكوين في رحم تلك الأرض المعطاء.

ثمّ... جاء ربيع.  بدأت فيه الأزاهير تتفتّح، والأشجار تبرعم وتورق في كل مكان من أرض الله الواسعة.

أما المفاجأة المذهلة يا سادة.. يا كرام، أنني حين مررتُ، أنا العبد الفقير لله تعالى، من أمام ذلك الجذع المتفحّم، رأيت ما لا يصدّق. شعرت بقلبي يكاد يخرج من صدري ليرقص مبتهجاً كما الطفل الصغير.

لقد رأيت براعمَ صغيرةً وأوراقاً غضّة تنبت من التربة، وتنهض فوق سطح الأرض، لتشكّل شبه دائرة حول ذلك الجذع المتفحّم.

بدون وَعْيٍ مني أخذت أصرخ بفرح:

الله أكبر.. الله أكبر. لقد ولدت الشجرة من جديد.

عبد الرحمن عمار

شاعر وأديب سوري

 
 
Whatsapp