كان من المفترض أن أكون على متن الباخرة التي غرقت قبل مائة عام، الباخرة التي كنت سأعمل على متنها مقابل السفر مجاناً إلى ما وراء البحار، لكنني نجوت بفعل القدر، إذ تأخرت أمي في إنجابي كل تلك السنين، لأنها تعرفني أحب السفر عبر البحار، فقالت لأبي:
لن اتركه يسافر أبداً.
فكان أن تأخرتُ كثيراً. قرأت عن تلك الباخرة التي غرقت، فتخيلت نفسي على متنها وعشت اللحظات الأخيرة من عمرها وهي تستسلم للبحر.
أمي منعتني بكيد النساء من السفر، فأجلت ولادتي دون أن تعرف بأنني هربت منها، وصرت على تلك الباخرة كي ألتقي بفتاة أحلامي..، الفتاة الهاربة من شمال القارة السوداء، والتي سأبدي لها إعجابي من النظرة الأولى، وسأقول لها جئتُ كي أرمي بنفسي للبحر عوضاً عنك.
في العام 1815 كنت مشروعاً لأفضل عازف بيانو، كنت سأعزف للمسافرين على متن الباخرة، وانا أتأمل تلك السمراء التي سأموت من أجلها في نهاية القصة. سأتأملها وأنا أنقر على مفاتيح البيانو، وسأرفع لها القبعة بينما الباخرة تغرق، دون أن أتوقف عن العزف لها.
لكن أمي تأخرت، والباخرة غرقت بسرعة غريبة وكأننا وصلناها في الربع الأخير من موتها.
لم تستطع أمي الصمود أكثر فأنجبتني في زمن الانتصارات، رمتني كمن يرمي طائراً إلى النار، وكان كل شيء حولي يدعو للسعادة.
أنا من مواليد حرب تشرين التحريرية، وعاصرت الحركة التصحيحية المجيدة المبجلة بنت الحرام، التي عزف لنا مؤسسها سيمفونية الممانعة، فكان صوت الخطابات والآلات النحاسية يصيب آبائنا بالذعر فيهلهلون لها. اعتقدنا بأنهم سعداء ولم يخطر ببالنا أنهم أصحاب تجربة طويلة مع صاحب البلد.
ولم ننتبه للثقوب الكبيرة في سماء الوطن، قلنا دوماً بأننا استثناء طالما أمهاتنا لا يتركن فرض صلاة، وقلنا بأن الله معنا لأنه مع الضعفاء.
كذبوا علينا وقالوا لنا أن باخرة الوطن ستغرق إذا تجمّعنا كلنا في زاوية واحدة، فتفرّقنا وتفرّقنا وكانت المياه تبتلعنا بهدوء واحداً تلو آخر.
عشنا كل تلك السنين على دفة النجاة التي لا تتسع للجميع، ولكي يعيش خالك يجب أن يموت عمّك.
عشنا على تلك الدفة العائمة على وجه الحزن، أنجبنا الأطفال وعلمناهم السكوت والاستماع والإنصات وعادة التصفيق، وكبروا فزوجناهم وأنجبوا أطفالاً لا يحبّون الموسيقى ويفتتنون بالصراخ.
كانت الدفة تغرق سنتيمتراً واحداً كل شهر. لم ننتبه لها، وكان صاحب البلد يرمي ما هو زائد منا لإحداث التوازن، حتى أنه ذات مرة رمى مدينة كاملة ولم ننتبه لها، عشنا والماء يغمرنا حتى المنتصف، وكنا نرفع أطفالاً حتى يكبروا وتتمكن رؤوسهم من بلوغ الهواء، وأحببنا بعضنا البعض. لم نأبه لغرقنا لأننا كنا نفكر بالجوع أكثر من الحياة.
كانت الباخرة تغرق، وكنت أركض على السلالم بحثاً عن تلك الفتاة السمراء لأقول لها سأموت معك، لكن أمي تأخرت والباخرة غرقت.
كانت أمي تريد تأجيل ولادتي لزمن آخر، لم تكن تريد لي أن أرى أطفالاً يكتبون على سور المدرسة، وعسكراً يقتحمون بيوت الأهل ويرمون كل شيء الى جهنم، الناس والبيوت والطيور والقطط، ويقومون بإعدامات ميدانية للخيول.
لم تكن أمي تريدني أن أرى القيامة، فأجلت ولادتي مرة أخرى.
كان من المفترض ان أكون من مواليد برج الكلب، هذا لأنني وفيّ أكثر من الحد الطبيعي للوفاء، لكن أمي أجّلت وأجّلت، وبفعل القدر أصبحت من مواليد برج الحمل الوديع، الوديع المتيم والعاشق لكل شيء، والمعروف بأنه يتخذ القرارات بسرعة، لهذا السبب أحببتك في لحظة.
لم تعرف أمي أن أصحاب برج الحمل أكثر الناس عرضة للموت حزناً. فهي لا تدري شيئاً عن الأبراج، وحين سألتها عن برجها ذات مرة لم تفهم ماذا اقصد فتركتها.
أمي أجلت ولادتي كل تلك السنوات لألتقي بكِ، ولأقدم لك دفتي الصغيرة لتعيشين عليها وأختفي أنا تحت الماء.
محمد سليمان زادة
شاعر سوري مقيم بألمانيا